أقوال جاهزة لكل موقف
تمثل الأمثال العامية أمام كل منا، نأخذ منها ما نأخذ ونترك ما نترك، وكذلك الأقوال المأثورة والحكم بما تحمله لنا من رحيق العظة والعبرة، فالاختيار السليم والفهم الصحيح لمعنى المثل يتوقف على رجاحة العقل وسلامة التفكير والمنطق. وعلى المرء هنا أن يجتهد ويفكر جيداً قبل التقاط ما يناسب فكره ويوافق رأيه الناضج بما يتيح لنا السلوك السوي في تصرفاتنا الحياتية. وتحمل الأمثال العامية لنا قصصاً طريفة من تجارب الناس بقيت لنا على مر الزمان، وتكشف أحداث القصة التي نتج عنها المثل ذاته ومن أجل هذا كانت الأمثال فيما هو معروف هي خلاصة التجربة الإنسانية التي يعبر الإنسان عنها نتيجة استفادته منها وما استقر من حكمة على ما مر به من مواقف حياتية. وكتاب “أمثالنا في الميزان” للباحث عثمان الجوهري يمثل جولة في بستان الأمثال العامية، محاولا وضعها وعرضها على ميزان العقل للتعرف على الغث فيها من السمين، وهذه الأمثال العامية التي بين دفتي الكتاب تم تناولها بالكتابة عنها ونشرها في الطبعة الدولية لجريدة “الأهرام” في الفترة بين أعوام 1990 حتى عام 1998، فمن المعروف أن كتاب “الأمثال العامية” للعلامة الكبير أحمد تيمور باشا يضم 3188 مثلاً عامياً. وقد فاز عمود من أمثالنا العربية بجائزة العمود الصحفي في مسابقة علي وعثمان حافظ بالمملكة العربية السعودية 1997. لوحات مرسومة وقد عالج المؤلف الجوهري تأملاته لأمثالنا العامية في شكل لوحات مرسومة بالكلمات: اللوحة الأولى عن الأسرة والزواج، والثانية عن المجتمع الذي نعيش فيه، والثالثة موضوعها الكلام وما للثرثرة من أضرار مع الإشارة إلى فن كتم الأسرار، والرابعة جاءت عن الاقتصاد والادخار في مواجهة الإسراف والتبذير ومالها من مخاطر وأضرار. يرى المؤلف أهمية تحكيم العقل في التعامل مع الأمثال “حتى لا يقع المرء منا فريسة للقلق والاضطراب النفسي بغير داع ولا مبرر، فقد يقتنع البعض بمثل عامي يؤثر في تصرفاته.. أو يضعه في موقف غير كريم بل يساعد على تشويه صورته لدى الآخرين، فلو قال شخص ما “حلال أكلناه.. حرام أكلناه” أليس هذا تعبيرا عن شراهته وأنانيته وعدم اكتراثه بمبدأ أو دين.. ولو قال شخص آخر: “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، أليس هذا دعوة للتبذير وعدم الاكتراث بما لديه من مال، ولا نقول له بالتقتير ولا البخل ولكن الاعتدال دائماً مطلوب، إننا في الأمثال العامية نقرأ في كتاب الحياة الاجتماعية المفتوح أمامنا ولا ننسى صعوبة الحياة ومشقتها وسبل المواصلات الصعبة والمرهقة، وعلينا أن نعرف أيضاً عشرات السنوات التي استغرقها جميع الأمثال العامية وانتشارها بين سائر أفراد المجتمع حيث تسلح الناس بخبرة الزمان وتجارب الأيام في مدرسة الحياة الكبرى”. ويوكد المؤلف إن الأمثال العامية عندما نستخدم بعضها نحتاج إلى نظرة متأنية لفهم ما يرمى إليه المثل العامي، حيث هناك بعض الأمثال يتم فهمنا لها بشكل متسرع ويتضح ذلك عندما نقرأ المثل العامي الذي يقول “اجري جري الوحوش غير رزقك لن تحوش”، فقد يفهم البعض هذا المثل على أنه دعوة للكسل والتراخي والتواكل بل يذهبون إلى أنه دعوة لتثبيط الهمة، في حين يفهمه البعض الآخر على أنه دعوة لمحاربة النهم والطمع والحد من الأنانية والجشع، وأيضاً يحثنا على الرضا بكل ما هو متاح لنا والقناعة بما قسم الله عز وجل ودعوة حقه.. لكسب الرزق الحلال. ومثل عامي آخر نختلف في فهمنا له “لبَّس البوصة تبقى عروسة” قد تفهم المرأة أن هذا المثل دعوة للتجميل والتزين، وهو فعلاً كذلك، لكن المكروه هنا هو المبالغة في استعمال المساحيق والملابس من باب الرفق بميزانية الأسرة من ناحية ثم إن هذه المبالغة قد تؤدي إلى نتيجة عكسية تماماً وتضر وتنفر الآخرين منها. ثم بعض الذين رزقهم حسن الحوار وبلاغة التعبير نجدهم يستعملون هذه الأمثال بطريقة ذكية فيها دبلوماسية. فعندما يعرض أمر ما على شخص ويتردد فيه، فيجيء الرد بهذا المثل العامي “اللي يعجبه الكحل يتكحل واللي ما يعجبه يرتحل”. إذن لا ينبغي أن نقول المثل على علاته بل نفهم ما يرمي إليه في أناة. ويضيف عثمان الجوهري “لقد سمعت عن فناننا الراحل صلاح جاهين أنه كان متأثراً بها لأنه اعتقد أن أمثالنا العامية تكاد تضيع منا واقترح أن يقوم التلفزيون والإذاعة بالحفاظ عليها وإحيائها والاهتمام بها. وتمنى صلاح جاهين أن يخصص برنامجاً فى الإذاعة أو التلفزيون ليتم التواصل بين الماضي والحاضر من أجيال الأمة والحرص على الاستفادة من الأمثال الهادفة في التربية والتنشئة السليمة وعلى أجهزة الإعلام المختلفة العمل على تعميق الوعي ومعالجة هذا التراث الاجتماعي وأيضاً معالجة الأمثال القليلة التي لا تستقيم مع منطق الحياة السوية السليمة. هنا نجدد هذه الدعوة لعلها تجد عند المسؤولين في الإعلام الصدى الطيب والمنشود”. توافقات وتناقضات يؤكد الجوهري إن المثل الشعبي كالمثل الفصيح والقول المأثور ينشأ من خلال حركة أفراد المجتمع، قد تكون عميقة الجذور في شعب معين بينما قد تنتقل إليه من شعب آخر ما ينتقل إليه من تراث فكري، وقد يكون المثل حديث التكوين، ولكن سرعان ما ينتشر وبسهولة لأنه يمس جانباً من شعور سامعيه أو قد يضرب على وتر حساس في نفوسهم ومن هنا قد يكون له الصدى الطيب في الاقتناع به والاستفادة بما فيه من حكمة وعظة، ويرى البعض أن الأمثال تتضمن في أكثر الأحيان نوعاً من التضاد والتناقض الذي يثير الدهشة ربما يستدعي الابتسامة فالحياة كلها ليست مثل عليا وجدية بل هي خليط من جد ولهو، من خير وشر، ومن حق وباطل مع ضعف وقوة فالحياة مليئة بهذا التناقض والمثل الصادق لا يكون إلا على صورة ما يمثله فالناس يجعلون لكل حالة لبوسها، والذهن العربي بوجه خاص يدرك التناقض ويرى وجود بعض الحالات المتعارضة والمواقف المضادة في الموضوع ذاته، فقد نرى الرحمة إلى جانب القسوة في مثلين يعالجان حالة واحة وأيضاً قد نرى التساهل والتشدد في بعض الأمثال المتعارضة حول الموقف نفسه. وهنا تعقيب يسير لا بد منه ليس من باب الدفاع عن الأمثال العامية بالحق أو بالباطل ولكنها محاولة للإنصاف وإجلاء بعض الغموض: إن هذا الكلام وكل من ينحو نحوه قول لم يحالفه الصواب.. صحيح يجد كل منا بعض الأمثال على طرفي نقيض، نجد مثلاً “إن جاء الطوفان حط ابنك تحت رجليك” مع أن هناك مثلاً يرد عليه ينفس المعنى تقريباً: “إن كبر ابنك خاويه”.. كيف سيعامله كأخ له وهو كاد أن يضعه تحت أقدام الأب الجشع عندما يجيء الطوفان. وفات القائل بذلك التناقض أن لكل منهما قائله.. وربما كانت هناك مدة زمنية متباعدة. فالأمثال العامية ليست من نتاج مؤلف واحد أو شخص معين بل الذين قاموا بوضعها مئات من أفراد المجتمع تمتعوا بقدر من الحكمة والخبرة ومروا بمواقف ثبت فيها صحة هذا المثل. لم يدع أحد أنه قام بوضع هذه الأمثال بمعرفته أو من بنات أفكاره وحده، لكنها حصاد مجتمع كامل وفي عشرات السنين. وأي كتاب للأمثال العامية نفسه لا يخضع للنقد لأنه مجرد حصر للأمثال على علتها ولا دخل له بها. تجارب وخبرات ولكل فرد منا عادة، ظروفه وأفكاره.. منا المعتدل ومنا غير المعتدل، هناك من يلتزم بأوامر الدين القويم ومنا من لا يلتزم بالقدر الكافي، ومن هنا جاءت هذه الأمثال تعبر عن الآراء في مواقف معينة، وطبعاً الذي قال: “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب” ليس هو الذي قال “القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود” فالأول فيما يبدو كان مبذراً ومسرفا بينما الثاني مدبراً ومقتصداً، ومن هنا لا نقول إن المثلين متعارضان لأن القائلين مختلفين وفي ظروف مختلفة، حتى مع الافتراض الجدلي أن قائل المثلين هو شخص واحد فمن المؤكد أنه قال بالتبذير والإسراف في بداية حياته حيث اللاخبرة واللامسؤولية وربما توافر المال لديه، وعندما تقدم به العمر وعصرته الحياة وعلمته الأيام تغير تفكيره وفلسفته. وكل ما يمكن أن يقال في هذه الجزئية إن الأمثال هي حصاد أجيال وأجيال وآراء مئات من الأفراد، وبالتالي فإنها ليست نتاج وتأملات شخص واحد حتى يتسنى لنا أن نحاسبه أو نحاكمه على ما هناك من تناقض أو تضاد، لأن هذه الأمثال العامية مجهولة المؤلف وشعبية الأصل فلا ينبغي أن نفترض أننا نستطيع الفصل بين المثل المثقف والمثل الدارج الشعبي أو العامي. وكانت هناك دائماً عملية أخذ وعطاء بين هذه المأثورات الشعبية والمثقفة حتى لو كانت عقول الأفراد هي التي قامت بصياغة الأمثال، فإن جمهرة الشعب والعامة من الناس هم الذين اقتنعوا بها وروجوها وتوارثوها، ولهذا السبب ظهرت بعض التحويرات ولم تكن هذه التحويرات متعمدة فيما يتعلق بالحكايات الشعبية بل كانت نتيجة للنسيان أو قصور الذاكرة فإن الأمثال تعرضت مع مرور الزمن للتحويرات المقصودة وبتصرف متعمد، ولقد وصلت إلينا شفاهة لأنها كانت وليدة موقف معين وجاء هذا المثل كتعبير عن هذه الحالة وعلى ذلك تناقلها الناس في مثل هذه الموقف، وبالتالي ارتاح إليها الناس واستعملوها لأنهم رأوا في كثير من الأحيان فيها حكمة تطابق ما يتعرضون له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق