نافذة الجمعة

يقتل القتيل ويمشي في جنازته

 

هناك قصة جميلة أوردها عبدالله بن المقفع في رائعته المعروفة ” كليله ودمنه ” مفادها أن عصفورين كانا يحطان على غصن شجرة وهما يرنوان من عل إلى صياد اصطاد طيرا وبدأ يحزّ رقبته بسكين كان يحملها معه وأثناء عملية الذبح دمعت عيناه فرأى أحد العصفورين الدمعة فبادر صاحبه قائلا : أنظر إلى عيني هذا الصياد كيف تذرفان الدموع على الطير الذي ذبحه فأجابه زميله : لا يا صديقي أنت على خطأ لأنك نظرت إلى عينيه ولم تنظر إلى يديه اللتين ارتكبتا الجريمة !

على أن بعض رجال المال والاقتصاد خاصة من مسؤولي البنوك الاستثمارية صاروا  يظهرون لنا خلال الفترة الأخيرة في صورة هذا الصياد نفسه حيث يذرفون دموعهم على تزايد أعداد ذوي الدخل المحدود أو تآكل الطبقة الوسطى ويطالبون بإنقاذ هذه الطبقات وإعادة الحيوية لها والنهوض بقدراتها لتتمكن من العيش الكريم والحصول على السكن اللائق بها . وقد يلحّون ويتحذلقون و(يتفلسفون ) في ذلك حتى يُخيّل للمرء أنهم صادقون أو أنهم ( حنونين ) وأصحاب شفقة ورأفة بالضبط مثلما ظن العصفور  وجود هذه الرحمة في الصياد عندما رأى دموعه ،  بينما الحقيقة أن يد الصياد كانت ممسكة بالسكين وهي التي كانت تقوم بحزّ رقبة الطير المسكين حتى تلطخت يده بدمائه  في منظر لا يختلف عما يقوم به هؤلاء الصيادون الجدد في واقعنا من أصحاب أو مسؤولي المؤسسات والمستثمرين الذين صاروا كالغول يأكل في الأراضي وينتزع المساحات الشاسعة منها ، في البر ّ والبحر ويحرم منها المواطنين الذين كانوا يعتقدون في يوم من الأيام أنها من مدخرات أجيالهم واحتياطيات مستقبلهم – ويبني فيها هؤلاء الصيادون كل تلك المدن والمنتجعات والجزر والمجمعات بينما  يتعذر على طبقات ذوي الدخل المحدود أو الطبقة الوسطى الاستفادة منها ولا يمكنهم ذلك حتى في ( أحلامهم ). ثم يُتركون ليس لهم إلا أن يجأروا بالألم والحسرة لتنامي أزمتهم الإسكانية دون أن يكون لها حلّ في المنظور القريب في حين أن أعمارهم تمضي لسنوات تطول ولا تقصر ، وأبناؤهم يكبرون دون أن يحصلوا على المأوى الذي يناسب طموحات أي إنسان نحو الزواج والاستقرار . وباتوا يندبون حظهم وهم يرون جموع المتداولين من شركات ومؤسسات وبنوك ، لا أوّل لها ولا آخر ، في ما تتمناه لها أو لأبنائها وأسرها من عقارات وأراضي بينما هم لا حول لهم ولا قوّة .

ومع ذلك ، وبالرغم منه ؛ لا يتردد هذا البعض ( الصياد ) في البكاء على أحوال الناس وصعوبة معيشتهم وأعباء حياتهم واستحالة حصولهم على أرض وسكن مناسب ، ويمكن أن يذرف بشأن ذلك دموعاً غزيرة فيكون كـالذي ( يقتل القتيل ويمشي في جنازته ) .

وقديما قال أحد الساسة : ( فن السياسة هو أن تتمكن من تحويل جرائمك إلى مآثر وفضائل وأن تقنع الناس بأكاذيبك ) .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *