يظل الموروث الشعبي السردي عموماً والأمثال الشعبية خصوصاً مساحة قادرة على استفزاز الباحثين لتتبعها حتى إذا ما تصور المهتمون أنهم نجحوا في استكمال المشهد، فوجئوا بالمزيد من مفاجآت اختزنها الوجدان الشعبي الجمعي الذي لا يكل عن الإبداع.
ولعل أهمية الأمثال الشعبية تحديداً تكمن في كونها سردية شفاهية شديدة التكثيف والقصر، كأنما "تصفع" الواقع أو تكثفه ثم تقطره بهدوء عل سطح بارد دون كثير عناء، بلغة لا تخلو من موسيقى داخلية ومجاز موحٍ، ولعل هذا ما يجعلها سريعة الانتشار.
في رحلة بحثي عن الأمثال الصعيدية التي جمعت العشرات منها، وجدت الكثير من الأمثال غير المتواترة في شمال مصر، فكان سمعي يلتقطها للمرة الأولى على الإطلاق، وبدا لي أن تلك المجموعة من الأمثلة متنوعة في موضوعاتها والغاية من كل منها وإن كانت في مجملها تدور حول القضايا الأكثر بروزاً بصورة تقليدية في المشهد الاجتماعي الجنوبي مثل الفقر والزواج والقدر والموت.
ويبدو للناظر أن الكثير من الأمثال الشعبية الجنوبية، ربما كسائر الأمثال الشعبية في الحضارة الإنسانية، هو محاولة للإجابة على أسئلة الصعيدي الحائرة أو وضع قواعد فيما يتعلق بالقدر واختياراته التي قد تكون غير مفهومة تماماً، وكأنما يسعى قائل المثل أو مطلقه لأن يُخلف لأبنائه من بعده إجابات جاهزة أو أفكاراً مفتاحية لفهم بعض أنماط البشر أو بعض الأقدار بعبارات موجزة.
لكن أكثر ما استوقفني في رحلتي كان الأمثال الشعبية المتعلقة بالمرأة... بالفتيات والنساء وأنماطهن وتصنيفهن الذي يبدو أن الجمال الشكلي معيار أساسي له.
فهناك مثلاً نجد "بخت السودا وأم سنون، وبخت البيضا تحت التراب مدفون"... ولقراءة هذا المثل في تقديري شقان، الأول في مجمل المعنى الذي لا يخلو من تعجب مستنكر لأن تحظى "السودا" أو "أم السنون" - كناية عن القبح - بقدَر أكثر رغداً من نظيرتها "البيضا" التي يعلو التراب حظها في الحياة. بل إن المفترض بداهة بحسب هذا المثل، أن تحظى "البيضا" أي الجميلة بالسعادة بينما تترك "السودا" أي الدميمة بالشقاء!
أما الشق الثاني لقراءة المثل، فهو الربط الضمني بين بياض البشرة والجمال في مقابل سواد البشرة والقبح، وهذا من المعايير الشائعة، بحسب ملاحظتي، للجمال ونقيضه في الصعيد.
ويبدو أن المثل يهيىء الدوائر التي يدور فيها إلى مثل هذه المفارقة المستغربة لدى مطلق المثل، مذكّراً بأن السعادة والتعاسة قدران غير مرتبطين بالجمال أو نقيضه.
المعنى نفسه يتكرر في مثل آخر: "بخت الكتاتي يبيت الليل يهاتي، وبخت ام الشعور تبات الليل مقهور"، والكتاتي أي ذات الشعر "المكتكت" الشديد التعرّج، والتي من غير المفهوم مع تجعّد شعرها أن تنعم بليل هانىء، غالباً بالحب، بينما "أم الشعور" أي ذات الشعر الناعم المنسدل مقهورة أو محرومة من الحب!
وفي معنى غير بعيد من المثلين السابقين، نجد المثل الصعيدي القائل: "عُرس الهاملة سنة كاملة"، والهاملة هي الفتاة التي لا تجد متابعة عائلية قوية، أو التي لا تنتمي لأسرة محافظة بما يكفي لضبط سلوكها، وفي المثل استنكار جديد لأن تنعم مثل هذه التي لا تجد "ضابطاً ولا رابطاً" لسلوكها، بزيجة مثيرة للحسد، والمعيار هنا هو أن يُقام لها عرس كبير ممتد على مدار سنة!
المثل الرابع الذي يكمل هذه المجموعة ويتقاطع مع نفس معاني أمثالها، هو "بخت العفنة بالحفنة وبخت الشطار شمّر وطار"... والعفنة هي القليلة النظافة، وبختها بالحفنة أي حظها سخي ورزقها واسع، حتى مع قلة نظافتها... أما الأخريات من المهتمات بنظافتهن، فبختهن "شمّر وطار"، أي غادرهن حُسنُ الطالع على الرغم من اجتهادهن.
رحلة بحث مثيرة عن الأمثال الصعيدية، بكل ما تحمله من تنميط للمرأة
حاسدة، قادرة، وجوابها من رأسها وفي الوقت نفسه أميرة، وشيخة وكبيرة... هكذا تصور الأمثال الصعيدية المرأة
السخرية أيضاً لها نصيب في الأمثال الشعبية التي تتناول المرأة في الصعيد، كالمثل القائل "عيفة وتعاف وصُلّة وتخاف". في هذا المثل إشارة ساخرة لامرأة "عيفة" أي مثيرة للاشمئزاز لكنها مع ذلك "تعاف" أي تشمئز من الأخريات! وهي ذاتها "صُلّة"، أي أقرب إلى الغولة في مظهرها، لكنها تتكلف الرهافة وتخاف من الأخريات، هي المخيفة لهن أصلاً!
كذلك سخرت الأمثال الشعبية في الصعيد من "الهبلة" أي البلهاء أو الحمقاء، والأكثر من بناتها اللاتي ولا بد ورثن حماقة أمهاتهن، فقال المثل "ما تخافش من الهبلة، خاف من خلفتها".
وسخرت الأمثال بقسوة أيضاً من المرأة ذات السلوك الشائن كما نرى في المثل القائل: "يا قردة مالك ماشية تتمرقعي؟ قالت طول عمري واخدة عالفضيحة".
في هذا المثل إدانة ليس فقط لسلوك من يُعرف عنها الانفلات الأخلاقي، بل أيضاً من اعتيادها على سوء السمعة وأن تكون سيرتها السيئة محل نميمة في المجالس النسائية، حتى إنه لم يعد يردعها سوء تناول سمعتها.
أما المتدللة المغالية في طلباتها إذا ما جاءها الزواج، فإنها تقع محل سخرية بالمثل القائل "البايرة طمعت في الجوز قالت: ادوني مهري تلّ جِمال" والبايرة هي التي لا يتهافت عليها العرسان، وتدللها عندما يأتيها عريس مثير للسخرية اللاذعة.
وفي موضوع الزواج أيضاً نجد عدة أمثال أخرى مثل "اللي جوزها مجلعها (مدللها) تمشي وتطرشق صوابعها" ومنه ندرك أن مكانة الزوجة في دائرتها الاجتماعية مستمدة بالأساس من معاملة زوجها لها.
كما يقال "خدي الشاب الزين واتطلعي فيه، واشتغلي ووكليه" وفي هذا المثل تحذير للفتيات من الانصياع وراء إعجابهن بحُسن بعض الفتيان ممن يوقعون الفتيات بمعسول الكلام وحسن الطلة، ثم يعتمدون عليهن فيما بعد في إعالة الأسرة.
أمثال أخرى عدة تتعلق بالمرأة، ولا تبدو فيها المرأة في أفضل تقديم ولا تصوير مثل "العنيزية تعلّم أمها الرعية"، ومعناه أن الفتاة السيئة السلوك تجبر أمها على تتبعها والتضييق عليها كي لا تجلب العار على بيتها، و"اللي تعمله العنزة يقعد في قرونها" أي أن سيئة المسلك لا بد أن ينفضح أمرها في يوم ما، فالشواهد عليها لصيقة بها بادية للعيان.
يضاف إليها "جبتي ايه يا ولادة؟ جبت بنية حسادة"، و" كلم القادرة تلهيك واللي فيها تجيبه فيك"، و"الكوع مدبب والوش مهبب واللي يصبح بيها لا يبيع ولا يتسبب" و"العايبة تعلّم الخايبة جابتلها النايبة" و"اللي تجعل بنات الحريم حِبان في الوش جنة وفي القفا نيران" وفيه إشارة للمرأة التي تبدي من المحبة خلاف ما تبطن من الغيرة والحقد.
تعليقاً على هذا، يقول محمد شحاتة العمدة، الباحث في التراث الشعبي الأنتروبولوجي والذي نشأ في صعيد مصر، إن الأمثال الشعبية في حالتها المثالية هي أدوات ضبط مجتمعي أو قوانين شعبية لتنظيم المفاهيم والعلاقات، لكنها قوانين دائرة في دوائر أو جماعات بعينها، وانتقالها من جماعة لجماعة أو من جيل لجيل له دلالات تتعلق بقوة تأثير المثل أو صدقه أو، وهو الأهم، مصدره.
فانطلاق المثل من بيت ذي نفوذ في القرية التي انتشر فيها، كأن ينطلق المثل من نساء عمدة القرية أو كبيرها أو شيخ بلدها، أو من البيوت المرموقة، يجعل المقولة الشعبية أو المثل نفسه أكثر ذيوعاً وتأثيراً.
وعليه، يمكن القول إن الطبقات الأرقى اجتماعياً في جنوب مصر قد لعبت دوراً مؤثراً في تشكيل الثقافة الشعبية متمثلة في السرديات الشعبية المتواترة بما لها من نفوذ اجتماعي وثقافي.
لكن، والحديث ما زال للباحث الصعيدي العمدة، مع ذوبان الفروق الاجتماعية والاقتصادية عقب ثورة 1952، ومع اندماج فئة كبراء القرى وشيوخ البلد مع الفئات الشعبية، لم تعد الأمثال تخرج من الدار الأرقى اجتماعياً بالضرورة، وعليه فإنها لا تمثل أداة ضبط اجتماعي ولا تعكس البنية القيمية للمجتمع بدقة، ناهيك بأن قيمة المثل الشعبي ذاته قد خفتت مع التطور الحضاري، فأصبح من المواد الثقافية المشرفة على التآكل والانقراض.
ويؤكد العمدة أن ما نجده من أمثال تروّج لصورة سلبية للمرأة الصعيدية لا يمثل حقيقة وضعها في المجتمع، كما أن هذه الصور السلبية تتعارض بشدة مع الأغاني الشعبية الموروثة أيضاً في الصعيد والتي تُقدم المرأة الصعيدية بوصفها "الأميرة" و"شيخة العرب" و"النخلة العالية" و"الكبيرة".
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22