طبيعة المثل في الثقافة العربية الإسلامية
إنجاز: المصطفى مويقن
تهدف هذه الورقة إلى محاولة إعادة الاعتبار لغنى وثراء المثل في الثقافة العربية؛ بغض النظر عن طبيعة المثل على المستوى التركيبي؛ سواء أكان ذا تركيب عربي فصيح أم كان ذا تركيب عامي.
لنتساءل، بدءا: لماذا البحث في المثل، والحفر عن جذوره في الثقافة العربية الإسلامية؟
يعود في اعتقادي هذا النبش في أركيولوجيا المثل، إلى ما يلي:
1 – إن تشغيل المثل في التداول الآني، وتحت إكراهات إيديولوجية وسياسية، تسعى للوصول عن طريق التمثيل به إلى الوقوف على صحة أطروحاتها التي تعتبرها بمثابة "الحقيقة". كل هذا عمل على إفقار المثل من بعده الشعري والقصصي. وهي إحدى خصائص المثل الجمالية سواء على مستوى المعجم أو على مستوى البلاغة. فالتوظيفات الحالية أفرغته من كل حمولة ثقافية؛ كانت الثقافة العربية الإسلامية قد عملت على بناء عناصرها لبنة لبنة، بغية إثراء الثقافة العربية الإسلامية نفسها كحلقة وسطى بين الشعر والنثر.
2 – غالبا ما نربط المثل بالثقافة الشعبية، مع العلم أن الثقافة العالمة احتفت بالمثل بشكل كبير. لقد أورد حاتم صالح الضامن في التحقيق الذي صدر به كتاب أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري، المسمى: الزاهر في معاني كلمات الناس أزيد من خمسين كتابا اهتمت كلها بالمثل، بل إن أغلبها يحمل بين طيات عناوينها لفظة "مثل". وهذا يدل على مدى القيمة الأدبية والصيغ الفنية التي يزخر بها المثل.
من هنا ضرورة كشف المحجوب عن المثل في اللغة والنقد سواء فيما يتعلق بالمعجم أو الاصطلاح. بمعنى آخر: كيف تعاملت الثقافة العالمة، ممثلة في المعاجم والدراسات النقدية، مع المثل.
1 – المثل بين المعجمية والاصطلاح:
إن حد الشيء جزء من معرفته، وعليه فلا بد من العودة إلى المعاجم لنسمع ما تقوله في تعريفها للمثل. فتحت جذر: "مثل" نقرأ في لسان العرب لابن منظور ما يلي:
"مثل كلمة تسوية، يقال: هذا مثله ومثله كما يقال شبهه وشبهه بمعنى. قال ابن بري الفرق بين المماثلة والمساواة أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين. لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفقين، تقول: نحوه كنحوه وفقهه كفقهه ولونه كلونه وطعمه كطعمه، فإذا قيل: هو مثله في كذا فهو مساو له في جهة دون جهة".
وبهذا التعريف نجدها واردة في بعض الآيات القرائية، مثلهم ثلاث مرات، مثله ثلاث مرات أيضا.
وعليه يمكن أن نتساءل كيف تعامل القرآن مع لفظ "مثل" –أقول لفظ مثل وليس اصطلاحا. لقد ورد ذكر مثل كلفظ في القرآن الكريم، جذر مثل إثنين وأربعين مرة موزعة على اثنين وعشرين سورة، عشرة منها مدنية والاثنا عشر الباقية مكية [مثل: 31 مرة/مثلكم: 7 مرات/مثلنا: 6مرات/مثله: 17 مرة/مثلها: 6مرات/مثلهم: 5 مرات/مثلهن: مرة واحدة/مثليها: مرة واحدة/مثليهم: مرة واحدة/مثلا: 22 مرة/مثله: 3 مرات/مثلهم: 3 مرات/أمثالكم: 4 مرات/أمثالها: مرتين/المثلات: 1 مرة واحدة. المجموع 100 مرة].
غير أن ما يهمنا غير التشبيه والمثيل والنظير هو القول السائر، الذي يعرفه ابن عبيدة بأنه حكمة العرب في الجاهلية والإسلام. لذلك نجد صيغة ثانية ترد في القرآن، وهي غير الصيغة الأولى، وهي التي نستشف منها المثل كما هو متعارف عليه. وإن كان يختلف عن القول السائر بما يلي:
أ – يؤشر القرآن الكريم على تواجد المثل في النص الديني، مع الإشارة إلى المثل: كما في قوله تعالى: (وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون) ، فهذه الآية تنصص على أن ما أتى قبلها "مثلا"، وهو: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون).
ب – يعتبر ابن رشيق القيرواني (ت.456) أن هذا النوع من الأمثال ضُمِّنَ الإعجاز.
ج – يرد المثل في القرآن:
1 – مقرونا أو مسبوقا بلفظة "كمثل" كما نجدها في العديد من الآيات القرآنية (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم).
2 – مقرونا بفعل "ضرب"، وهي واردة في النص الديني، في تصريفات وتحويلات عديدة، في الماضي والمضارع. وبالإضافة إلى نسبتها لله هي منسوبة إلى مجموعة من الضمائر وهي واردة في 30 موقعا.
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة).
غير أن ما ينبغي التركيز عليه في هذه الصيغ القرآنية ذات الطبيعة المثلية هو ما يسميه ابن رشيق بالأمثال الطوال، وهي إحدى خاصيات المثل القرآني. أولا: لاختلاف المثل القرآني عن سواه الدنيوي/الأرضي على اعتبار أن القرآن الكريم نص إلاهي، نص متعالي على الزمان والمكان، وبالتالي فهو المصدر والمرجع.
ثانيا: إن النص المتحدث عنه، أي القرآن، وبكل الاعتبارات التي ذكرناها أعلاه؛ فالمثل فيه لا ينبغي له إلا أن يكون هكذا. بمعنى أننا لو وجدنا إحدى أمثال الجاهلية، أو إحدى صيغها لما كان ذلك قرآنا، كما يجب ألا ننسى أن القرآن الكريم جيء به من أجل الإعجاز. لماذا أسوق هاتين الملاحظتين؟ أسوقهما لكون البعض يتحفظ من كون القرآن الكريم قد تضمن أمثالا بالمعنى المتعارف عليه.
وكاستنتاج لهذه النقطة، أتساءل: أيعقل أن يعرف العصر الجاهلي ذلك الزخم الهائل من الأمثال شعرا ونثرا ويأبى القرآن ألا يوردها. وقد كانت تعتبر إلى جانب الشعر، وإن كانت أقل حدة، نموذجا آخر للرقي اللغوي والتصوير الفني لإنسان ما قبل الإسلام؟
2 – المثل في الدراسات النقدية العربية:
لقد اهتمت الدراسات اللغوية والنقدية بالمثل، إذ قلما ما تجد مصنفا عربيا، وابتداء من القرن الثاني، لم يقل كلمته حول المثل. ولتشعب هذه الدراسات وكثرتها، فإنني سأقف على أربعة منها:
1 – عبد الرحمان جلال الدين السيوطي في كتاب المزهر في علوم اللغة وأنواعها.
2 – شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي (ت.850هـ) في كتاب المستطرف من كل فن مستظرف.
3 – عبد القاهر الجرجاني (ت.471هـ) في كتاب أسرار البلاغة في علم البيان.
4 – أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني (390-456هـ) في كتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه.
إن اختياري لهذه الكتب الأربعة لم يكن اعتباطيا، بل كان محكوما بخلفية التنويع بمعنى الوقوف على مجموعة من المجالات: فالأول عالم لغة والثاني إخباري والثالث بلاغي أما الرابع فهو ناقد. إن الاقتصار على مجال دون الآخر قد يجعل نظرتنا للموضوع المطروح نظرة قاصرة.
1 – يقتصر حديث السيوطي على إيراد مجموعة من التعاريف: "الأمثال حكمة العرب في الجاهلية والإسلام، وبها كانت تعارض كلامها فتبلغ بها ما حاولت من حاجاتها في النطق بكناية غير تصريح".
والمثل عند لا بد وأن تتوفر فيه ثلاثة شروط أو خلال بلغته: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه.
وهو عنده لا يقتصر على جهة دون أخرى، لكل الناس الحق في التعبير عن مشاعرها والتفريج به عن كربتها، فهو، أي المثل "ما ترضاه العامة والخاصة".
غير أن السيوطي لا يفرق بين المثل الطويل أو المرسل والمقتضب وإن كان قد اشترط فيه الإيجاز.
فهو يشترط فيه المثل عدم حذف أو إقحام أي عنصر من أو إلى لحمة المثل. يقول: "من شرط المثل ألا يغير عما يقع في الأصل عليه، ألا ترى أن.. قولهم: الصيف ضيعت اللبن. لما وقع في الأصل للمؤنث لم يغير من بعد وإن ضرب للمذكر".
2 – يعرف الأبشيهي بقوله: "اعلم أن الأمثال من أشرف ما وصل به اللبيب خطابه، وحلى بجواهره كتابه". فهذا الإخباري قد خصص الباب السادس من مصنفه للأمثال. وقد عنونه بـ: في الأمثال السائرة.
وباستثناء التعريف أعلاه، لا نجد شيئا عن المثل إلا ما كان من التصنيف والجمع، في خمسة فصول، لِكَمٍّ هائم من الأمثال:
الفصل الأول: فيما جاء من ذلك في القرآن والحديث
الفصل الثاني: في أمثال العرب
الفصل الثالث: في أمثال العامة والمولدين
الفصل الرابع: في الأمثال من الشعر المنظوم
الفصل الخامس: في الأمثال السائرة بين الرجال والناس.
وهذه الفصول بدورها صنفها تصنيفا أبجديا. بمعنى أن دور الأبشيهي اقتصر على الجمع مع العلم أنه من المتأخرين. ولكن وظيفته كإخباري هي التي حددت طبيعة عمله، أي الجمع والتدوين، دون التمحيص أو السؤال..
3 – على خلاف النموذجين، نجد عبد القاهر الجرجاني يأتي بالمثل رأسا إلى البلاغة بحيث يعرف المثل بقوله: "واعلم أن المثل قد يضرب بجمل لا بد من أن يتقدمها مذكور يكون مشبها به ولا يمكن حذف المشبه به والاقتصار على ذكر المشبه، ونقل الكلام إليه حتى كأنه صاحب الجملة إلا أنه مشبه بمن صفته وحكمه مضمون تلك الجملة".
والمثل عند الجرجاني قرين بالتمثيل. والتمثيل كما نعلم يتجلى في صيغتين:
1) إما أن يأتي المعنى ابتداء في صورة التمثيل، وهذا نادر، وهو ما نجده في القرآن الكريم بشكل وافر من مثل (مثله كمثل الذي استوقد نارا).
2) وإما أن يأتي في أعقاب المعنى لإضاحه وتقريره في النفس وترك أثر مخصوص من مثل: (ضرب الله مثلا في شركاء متشاكسون..).
4 – النموذج الرابع نجده أكثر تدقيقا، إذ خصص لهذا الحديث بابين: باب التمثيل وباب المثل السائر.
فالتمثيل عنده إماءة وإشارة، وهو من التشبيه، يقول: "من ضروب الاستعارة التمثيل وهو المماثلة عند بعضهم، وذلك أن تمثل شيئا بشيء فيه إشارة".
ويقول: "والتمثيل والاستعارة من التشبيه، إلا أنهما بغير آلته وعلى غير أسلوبه". ففي هذا التقديم نجده يتحدث عن المثل مع الإشارة إلى كونه يقصد به التمثيل، بمعنى أن التمثيل والمثل مترادفين عنده، مادام "المثل والمثل الشبيه والنظير".
أما المثل السائر فيعرفه بقوله: "المثل السائر في كلام العرب كثير نظما ونثرا، وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه، وقولهم مثل شرود وشارد، أي سائر لا يرد كالجمل الصعب". وهذا الوجه للمثل هو ما تحدثت عنه جل المقاربات التي تناولت المثل؛ وإن كنا نجد الأبشيهي يخلط بين الأمثال والعبارات المسكوكة. غير أن ما يميز التمثيل عن المثل عند ابن رشيق هو مقياس/معيار الطول، وهي نفس الخاصية التي يشير إليها عبد القاهر الجرجاني، بقوله: "اعلم أن المثل قد يضرب بجمل". وهذا اللون هو ما يميل إليه ابن رشيق، إذ يعتبره عصارة العلماء، يقول في ذلك: "تأتي الأمثال الطوال محكمة إذا تولاها الفصحاء من الناس".
3 – المثل والطابع القصصي:
تأتي مجموعة من النصوص السردية العربية الإسلامية باعتبارها أمثالا، بمعنى أن الحكايات المضمنة تأتي في سياق المثل وتوظف لغاية ضرب المثل. وبهذا يكون المثل/الحكاية ذا دلالة مغايرة؛ إذ تقدم الحكايات بوصفها أمثالا تحتاج من متلقيها إعمال العقل وفك شفرتها للتوصل إلى المغزى، وهو نفس ما نقوم به عند تلقينا لأي مثل. لقد جاء في باب عرض الكتاب من كتاب كليلة ودمنة: "ينبغي للناظر في كتابنا هذا أن ليست غايته التصفح لتزاويقه. بل يشرف على ما يتضمنه من الأمثال، حتى ينتهي منه ويقف عند كل مثل وكلمة ويعمل فيه رويته". والدليل على أن الحكاية هي أمثال مطولة يهدف راويها، عن طريق الحكي الممتع، أن يقف متلقيه على مغزى المثل/الحكاية بإعمال للرأي وسبر لغور الحكاية. ولا أدل على ذلك من الجمل التي ينهي بها ابن المقفع كل حكاية كقوله: "ضربت لك هذا المثل لتعلم.."
ونفس الشيء نجده عند إخوان الصفا ولكن بشكل مغاير. فرسالة الحيوان والإنسان لإخوان الصفا بنيت على شكل مثل: "ولأن عادتنا جارية على أنا نبين الحقائق بألفاظ وعبارات على وجه الإشارة وتشبيهات على لسان الحيوانات، ومع هذا لا نخرج عما نحن فيه عسى أن يتأمل المتأمل في هذه الرسالة ويتنبه من نوم الغفلة ويتعظ من مواعظ الحيوانات وخطبهم ويتأمل كلامهم وإشاراتهم لعله يفوز بالموعظة الحسنة".
إن نص "إخوان الصفا وخلان الوفاء" يسطر الهدف والغاية من الحكاية الحيوانية، وهي نفس أهداف وغايات الأمثال.
خاتمة:
فتمثيل حقيقة ما يعني إعادة صياغتها وتشكيلها تشكيلا جماليا، مؤثرا. فالمثل، من جهة، هو صناعة صورة ما. ومن جهة ثانية إفراز لأثر نفسي مساعد على الاقتراب من الحقيقة المراد إيصالها. بل إن إيراد مثل ما يوازي في قيمته المعرفية، المعرفة التي يقدمها "البرهان" وتقدمها المعرفة الظنية التي يحققها الجدل والمعرفة الإقناعية الممثلة في الخطابة. ذلك أن المثل يهدف في المقام الأول إلى التأثير في متلقيه، فهو –أي المثل- يسعى إلى حمل السامع إلى طلب الشيء الممثل به أو الهروب منه أو النزوع إليه أو الكراهة له. وإذا نظرنا إلى المثل من حيث كونه "فنا" فهو يسعى لتحقيق "لذةّ وتخييل وانفعال".
من هنا يهدف المثل إلى تحقيق اللذة أو تحقيق ما هو نافع ومفيد. فاللذة التي يحققها المثل تتأتى من اعتماده على الاستعارة والتشبيه القائمين على المحاكاة.
من تمة فاللذة أو المتعة التي تحققها المحاكاة في الفن، عامة، هي التي تسوغ للمتلقي على الإقبال على الفن بل وتفضيله على الواقع رغم بعده واختلافه عنه.
فتفضيل الناس للشيء المحاكى عن حقيقته في الواقع يعود إلى الوسائط الموظفة في الفن من قبيل الصور البلاغية والسخرية واللغة، حيث تجذب الناس وتدعوهم إلى التلذذ بها. يقول ابن رشد: "الالتذاذ ليس يكون بذكر الشيء المقصود ذكره دون أن يحاكى، بل إنما يكون الالتذاذ به والقبول له إذا حوكي. ولذلك لا يلتذ إنسان بالنظر إلى صور الأشياء الموجودة أنفسها، ويلتذ بمحاكاتها وتصويرها بالأصباغ والألوان" g
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق