القريحة البشرية تسعى بوعي إلى الحفاظ على مكتسبتها الحياتية وتوريثها من خلال الامثال.
بقلم: السيد نجم
"الأمثال الشعبية" تراث إنساني، وسمة إبداعية لدى كل الشعوب، وان بدت متفاوتة من شعب إلى آخر، ومن الريف عنه في المدينة، ومن فئة اجتماعية ثقافية إلى أخرى.. ومع ذلك كله، فهي قاسم عام ومشترك.
يبدو أن القريحة البشرية تسعى (بوعي) إلى الحفاظ على مكتسبتها الحياتية وتوريثها.. فكانت الأمثال الشعبية، وبكل خصائصها، من إيجاز وتكثيف، من إحكام ودقة في المعنى، من قوة تعبير للوصول إلى الغرض بلا مواربة. وقد شهد البعض فينا هؤلاء الذين يفضلون الحديث بالحكمة (كما نصفهم) وهم في الحقيقة يكثرون من ترديد الأمثال الشعبية بين ثنايا حديثهم. هكذا يعتبر الوجدان الشعبي استخدام الأمثال وكأنها "الحكمة" أو من الأفعال الحكيمة.
وهو ما عبر عنه "توريانو" بقوله:"إننا نستطيع أن نكتشف بسهولة طبيعة الشعب وذكائه عن طريق الأمثال الشعبية، فهذه الأمثال تمثل فلسفة الجماهير.
كما قال "أحمد أمين": "الأمثال نوع من أنواع الأدب، يمتاز بإيجاز اللفظ، وحسن المعنى، ولطف التشبيه، وجودة الكناية، ولا تكاد تخلو منها أمة من الأمم".
أما "رشدي صالح" فقد قال: "إن المثل هو هذا الأسلوب البلاغي القصير الذائع بالرواية الشفهية المبين لقاعدة الذوق أو السلوك أو الرأي الشعبي، ولا ضرورة لأن تكون عباراته تامة التركيب بحيث يمكن أن نطوي في رحابه التشبيهات والاستعارات والكنايات التقليدية".
لعله من أهم ما يميز المثل الشعبي "التجربة"، والتي قد تبدأ فردية، وتنتهي فردية..في ظاهرها. إلا أنها تجربة متكررة ومشتركة، ولنتائجها تقييم مشترك، اتفق عليه الجميع. فعبر "أحدهم" عنها في بلاغة عفوية، والتقطها آخر له القدرة على المحاكاة والتقليد والحفظ، ثم كان ثالث له سمة الحفظ عما يردد أمامه..وتتوالى الحلقات، فردية، وبالتكرار تصبح سمة جماعية متفق عليها.
ولاقت "التجربة" أهمية خاصة في الحديث عن "المثل الشعبي" في دائرة المعارف الفرنسية، باعتبار أن الحكمة الشعبية لم تتولد من العدم، تسبقها التجارب، فتتولد الجملة "المثل". وتلك التجارب تتصف بالمباشرة والعفوية، وسجلها فرد ذكى، وانفعلت بها الجماعة، واستوت الجملة على مر الأجيال.. حتى أصبحت "حكمة الجماعة".
ولا تخلو "الأمثال الشعبية" من المآخذ عند الدارسين، سواء أصحاب المناهج السياسية أو الاجتماعية. لنتوقف سريعا أمام بعض الأمثال ذات الدلالة والتفسير السياسي/الاجتماعي..
.."اللي يبص لفوق يتعب" .. "اللي يبص لفوق توجعه رقبته".
.. "رايح فين يا زعلوك بين الملوك"
وغيرها بطبيعة الحال كثيرة، كلها لا تعنى إلا أبناء الطبقة الثرية التي تحث أبناء الطبقات الأدنى بعدم التطلع والطموح. ومع ذلك فهي "الحقيقة" التي سجلتها الرواية الشفهية، وحفظتها الذاكرة الجمعية، ولا يبقى إلا توظيفها..فهي إن قيلت من الطبقات العليا فهي تعنى حصار الطبقات الأدنى في حدودهم الدنيا، من أجل الحفاظ على مكتسباتهم. وان نطقت بها أفراد الطبقات الدنيا فهي تعنى اليأس والقنوط وقلة الحيلة.
أما "المقاومة" التي هي النزوع نحو الأفضل والحرية، في مواجهة الآخر العدواني، غير قاصرة على خلاص فرد أو فئة أو طبقة.. بل تهدف إلى الخلاص الجمعي. تلك المقاومة وجدت صداها في الأمثال الشعبية بكم وشيوع أكثر.
تبدو روح المقاومة ضد الحاكم المستبد أو "السلطان" فيقول:
"كل إنسان في نفسه سلطان" وأيضا "الضرب بالسيف ولا حكم العويل في"..
وهو ما يعنى أن كل فرد سلطان أيضا /على نفسه، وتعنى أن الموت بضربة سيف أفضل من تحكم سلطان جائر.
وفى المقابل كانت أيضا الأمثال التي تعبر عن المساواة وعن العزة بالنفس فتقول الأمثال: "كلنا ولاد تسعة"، "الأقرع حصل أبو تاج"، "ربنا ما سوانا إلا بالموت"..
وكلها وغير تعنى الحث على أن هناك ما يبرر تحدي السلطان (أو الطاغي على أشكاله).
ومع ذلك إذا دعا الداعي وكانت هي الحرب، فالمقاومة المباشرة والنزال لا رجعة فيه، فيقول المثل الشعبي: "اللي رشنا بالميه نرشه بالدم".. "افطر به قبل ما يتغدى بك" .. "العرق في التدريب يوفر الدم في المعركة" .. "عند الطعن يبان الفارس من الجبان" ..
ولم يغفل المثل الشعبي "الكثرة" العددية في الحروب، فيقول : "الكثرة تغلب الشجاعة".
ليس معنى ذلك أن الشجاعة غير مطلوبة، بل لها أهميتها في الحروب، فالروح التي تتولد عن الشجاعة تستطيع أن تحول الهزيمة إلى نصر.. لذا كان المثل الشعبي (والذي نراه مجسدا على شاشات التلفاز هذه الأيام) يقول:
"الضرب بالطوب ولا الهروب".
السيد نجم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق