في مديح الشاي
عبدالعزيز البرتاوي
“إن الجهاد بالنسبة لنا، كفطيرة التفاح للأميركيين، وشاي الساعة الخامسة للإنجليز”. -أنور العولقي-
الشاي، وقت مستقطع لتأمل الماضي. القهوة، وقت منتظر لاستشراف الآتي. القهوة سوداء، كمفتتح الصباحات، مختتم الليالي. الشاي، أحمر، كدم القلب. كل شاي، هو أحمر، حتى يفصح عن لونه: أخضرٌ، أسودٌ، أبيضٌ، لا لون له. كل دم هو أحمر، حتى يجفّ. الأحمران: الشاي، والدم.
لا أحبّ الشاي. تحبّه هيَ. ولكونها تحبّه، أشربهُ ولا أبغضه. يحبّ أبي الشاي ثقيلًا. ذلك هو المزاج. أحبّ الشاي خفيفا رفيفًا، ذاك هو المجاز. لكلّ منكم شايٌ يخصّه: كوبه، برّاده، خّفته، طريقة صنعه، نكهة أوله، وطعم آخره. عرفت أصدقاء، يحبّون الشاي، كما لو كان قهوةً. ذلك أن الأصل للقهوة، ذلك أن أي مقهى، قد تجد به شايًا، ولكن لا مشهى، يقدم قهوة. هل سمعتم بمشهى من قبل. –هنالك قصة “مشهى”، لسمير خميس، صاحب مقولة: “وماخدروا الشاي حقّ خدره”-.
يقول الشاي للقهوة: لكِ الصباحات، مفتتح الأيام، وربما منتهى ليالي السهران، ولي باقي الوقت. لي الحفلة، ولي حضور الجمع، ولك المفرد الأرِق. تقول القهوة: لي المزاج والمجاز، لي التأمل والحلم، لي الرائحة والأمنية، لي ما يكتبه الشاعر من كلمات، ولك ما يثرثره العابرون، على مناضد اللغة. الشاي: ذكر، والقهوة: أنثى. الشاي: نهار، والقهوة: ليل. الشاي: نثر، والقهوة: شعر. “الليل هو الشاي، والنهار هو اللبنْ. حط ده على ده، وانت تدوق طعم الزمنْ”. –وليد طاهر-
حلوٌ هو الشاي، يذوّب أي سكّر يعبر فيه. صافٍ وتقرأه قبل أن تنهيه. لا يترك الشاي أثرًا، لا حثلًا، ولا ما تستطيع العرّافة قراءته. يمضي بلا وجع ولا أثر ولا ذكرى. القهوة أرقٌ، والشاي دفء. فوارق الوقتِ، يغطيها الشاي، وبوادئه، تعبّقها القهوة.
وتحريفًا لما قاله بوكوفسكي عن الخمر: نشرب الشاي، حين نكون غاضبين، لنهدأ. ونشربه هادئينَ، لأننا نستحقّ المكافأة، ونشربه حين لا نكون غاضبين ولا هادئين، لأننا نحتاج أحد الأمرين. الشاي، حالة. القهوة صانعة الحالة. الشاي ردة فعل، القهوة فعل. “فصُبّي لنا ما تبقّى من الشايِ، حتى نُبَعثِرَ في غابةِ الصّمتِ، بعضَ التّعاويذِ، أو ما تبقّى بأفواهِنا من كلامْ”. -محمد ابراهيم-
وكنّا إلى إذا الليل اتسق، طلبنا شايًا و”حبق”. وكنّا إذا ما همّنا أمرٌ، قلنا لحسام، يا حسام، يا ابن النعناع والمدينة، أطفيء شموعنا الحزينة، وهات شايك. حتى إذا ما بدأ يغليه، فُتحت الأبواب، وجاء الصحاب. كان شاي حسام، حكاية طويلة، لها رائحة النعناع، وطمأنينة المدينة. كان حسام مهندسًا، حتى في صنع الشاي. بكأس شاي، يمرّرنا في شوارع سلطانة والعقيق، يسمّعنا مآذن قباءٍ، وحداء الطريق. أينما كنّا في أرجاء الضَياع والضِياع، كان نعناع المدينة، يعبق برائحة الطمأنينة.
وأحنّ إلى شاي أمّي، إلى كوبها الذي كنت أحشوه بسكويتًا وشابورة. وهي تمانع، ما تمانع. حتى يستقرّ بين يديّ آخرًا. وكنت أحسبني صغيرًا، كلما تخطاني حامل أكواب الشاي إلى الكبار من حولي. صار العامل الصباحيّ، يبدأني بالشاي قبلهم. لقد كبرت، وصارت لي حصتي من الشاي والهمّ.
وكل شاي، لا يشبه غيره. شاي عمّال الظهيرة، له طعم الجوع والتعب. شاي الاجتماع الارستقراطيّ، له طعم الزيف والكذب. شاي العصر، ولمّة شمل البيت، له طعم الحكاية. شاي الحراسة الليلية له طعم الحذر. وثمة شاي للسفر. وشاي على شفا خندق، بعد غارة ليلية، ونعناع من أرض العدوّ، وذكريات العائلة.
“أيتها الأصابعُ التي تشبه المِذراةَ والبيانو، ثمّة الكثيرُ الذي يمكن الاستغناءُ به: يكفيكِ أن تبصمي بالإبهام على وثيقة رفض تعذيب الحقوقيين. ويكفيكِ تقليبُ صفحة الكتاب مستعينةً ببّلة اللسّان الذي صار له الآن ريقٌ. ويكفيكِ رفع السبّابةِ في وجه كاتبٍ مزيف. ويكفيكِ طبعُ كفٍّ غارقٍ في الدمّ على حوائط المؤسساتِ كرمزٍ لصرخةِ ابن آدم. ويكفيكِ أن تحطي شاشةً مبلولةً على جبين الفتاة التي تهدّها الذكرياتُ كلما دوّي أذانُ الفجر. أيتها الأصابعُ التي تشبه المذراةَ والبيانو، مازلتِ قادرةً على أداء الوظيفةِ الأهم: وضْعُ السّكر في شاي فاطمة”. هكذا قال حلمي سالم قبل أن يرحل.
أنهي الآن قهوتي المرّة، الـ تستاء من كلّ هذا المديح، لكوبٍ لا يحلو إلا بقطعتي سكّر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق