الأمثال الشعبية العربية طرقت بإيجاز ودقة جميع مشاغل الإنسان

حظي المثل في الثقافة العربية على قصره وإيجازه في المدوّنة العربية القديمة بكتابات وتعريفات مطوّلة ولعلّها الأطول المتعلّقة بما قلّ ودلّ من الكلام نذكر منها “مجمع الأمثال” للميداني و”المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر” لابن أثير و”جمهرة الأمثال” لأبـي هلال الحسن العسكري و”العقد الفريد” لابن عبدربّه وغيرها.
الاثنين 2016/02/29
تشابه الأمثال الشعبية العربية عائد إلى أنها تنهل من المعين نفسه من قبيل أثر كليلة ودمنة
يرى العسكري أنّ الأمثال نوع من العلم منفرد بنفسه لا يقدر على التصرف فيه إلا من اجتهد في طلبه حتى أحكم الوقوف على أصوله والإحاطة به.
ولا شكّ أنّ العسكري على صواب في اعتباره الأمثال “علما” مستقلّا بذاته دلالة على سعة مجاله وتشابك المعارف فيه، وكذلك صعوبة تفسير المثل وتأويله وهو ما تدعّمه النظريات العلميّة الحديثة في اللسانيات والاجتماع والأنتروبولوجيا.
ولا غرابة في ذلك لأنّ في تعريف المثل اختلف فلاسفة العرب والمسلمون وحكماؤهم وأدباؤهم ممّن استطاعوا أن ينحتوا لأنفسهم وجاهة فكرية لم يقدر الزمان على محوها في الاهتمام أكثر بشكله على حساب مضمونه وأساليبه أو العكس.
فابـن المقفع يرى أن الكلام إذا ورد مثـلا يسهل سمعه وحفظه ويكون أكثر جلاء للمنطق. وإبراهيم النظام، أحد أئمة المعتزلة ومعلّميهم يقول “يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية”.والفيلسوف الفارابي يعرف المثل في كتابه “ديوان الأدب” بأنه ما ترضاه العامة والخاصة في لفظه وفي معنـاه، حتى ابتذلوه في ما بينهم، وفاهـوا به في السراء والضراء، وهو من أبلغ الحكمة لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة، أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة”، وهو نفس التعريف الذي يبرز جمالية المثل والسرّ في شيوعه وذهب إليه ابن عبدربه في قوله “الأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلي المعاني، والتي تخيرتها العرب ونطق بها في كل زمان وعلى كـل لسان، فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها ولا عم عمـومها حتى قيـل: أسير من مثل”.
وهكذا يتضح أنّه ثمّة إجماع على أنّ أهميّة المثل يستمدّها من المطابقة الجمالية بين شكله ومضمونه، ما جعله على قصره وإيجازه الشديد يصل إلى المعاني العميقة والحكم التي يعجز عن الوصول إليها أطول الكَلَمِ (جمع كلام)، ما يجعله جنسا أدبيا شعبيا بامتياز تجتمع عليه الخاصة والعامة اللّتان قلّما اجتمعتا على ضرب من ضروب الفنّ والأدب، بل ما يجعله أشرف من الشعر والخطابة على حدّ اعتقاد صاحب العقد الفريد وهما اللذان لم نخل أنّ ثمّة ما يفوقهما أفضلية لدى العرب.
أهمية المثل يستمدها من المطابقة الجمالية بين شكله ومضمونه، ما جعله على إيجازه يصل إلى المعاني العميقة
تصمد الأمثال في وجه الزمن كما لا يصمد غيرها من أجناس الكلام. ولا غرابة حينئذ أن تكون أغلب الأمثال الشائعة لدى العرب اليوم رغم الاختلاف في النطق بها باختلاف اللهجات في الأقطار العربية، بل في القطر الواحد بعينه هي من أصل عربي واحد. والأمثلة على ذلك عديدة لا يسمح المجال بإيرادها كلّها، فالمثل القائل “لو كان الكلام من فضّة، لكان السكوت من ذهب” قد ردّده أبو عثمان الجاحظ معلّم البيان والتبيين الأوّل لدى العرب في أكثر من موضع منذ قرون وصمد متحدّيا الأيّام وهو إلى اليوم على مدار كلّ لسان.
الثقافة الشعبيّة العربيّة اليوم تحتفي بالصمت فتقول “صوابك سكات” (أي سكوت) للثرثار والمهذار والمتشادق و”الذي يتخلّل بلسانه تخلّل الباقرة بلسانها” والعبارات الأخيرة للجاحظ وتؤكّد في مثل من أمثالها التي تحذّر من مغبّة الإسهاب في الكلام “أنّ اللّسان ما فيهش عظم” بمعنى أنّه لا يكلّ ولا يتعب مثل أعضاء الجسد الأخرى ولذلك يتوجّب على صاحبه أن يقمعه ويمنعه من الهذيان وهي في ذلك لا تختلف عن العرب القدامى في قولهم “ليس شيء أحقّ بطول سجن من لسان” و”اللسان سَبْع عقُور” و”مقتل الرجل بين لَحْييه وفكّيه”.
لم تترك الأمثال الشعبية العربية أي مجال من نشاطات الإنسان اليومية ومن حياته الروحيّة إلّا وطرقته ووطأته وهي في ذلك كثيرا ما تتقاطع مع أمثال الشعوب الأخرى حتّى أنه يمكن لأيّ مثل من ثقافة ما أن نجد له ما يشبهه، بل قل ما يناظره ويرادفه في ثقافة أخرى مختلفة اللغة والحضارة، فالعرب يقولون “ابن الفار يجي حفّار” والفرنسيون يقولون “الولد مثل أبيه” دلالة على أنّه يكون نسخة مطابقة من والده، وهو ما تفنّد صحّته في الكثير من الأحيان التجربة والمثل ذاته حين يقول “النار تخلّف الرماد”.
الثقافة الشعبيّة العربية اليوم تحتفي بالصمت فتقول "صوابك سكات" (أي سكوت) للثرثار والمهذار والمتشادق
وإنْ كانت الأمثال العربية التي نجد لها آثارا في كلّ شبر من المحيط إلى الخليج من الكثرة ومن تعدّد الحقول الدلاليّة، ما يصعب حصرها والإحاطة بها في ما قلّ من الكلام، فإنّه تجدر الإشارة إلى أنّها رغم طابعها الشعبي والتلقائي، كثيرا ما تتجرّأ على الخوض في قضايا لا يتجرّأ عليها إلّا المفكرون والعلماء من كلّ ملّة مثل القضاء والقدر والإرادة، فيحذّرك المثل في سخرية مبطّنة من مغبة ارتكاب الأفعال الحمقاء بإرادتك ومحاولة إلقاء تبعاتها ومسؤوليتها على المشيئة الإلهية بأن يأمرك بألا تضع كوزك في منحدر من الأرض وتتوكلّ على اللّه حتّى لا يسقط ولا يتهشّم “حط كوزك في الحدرة (أي المنحدر من الأرض) وقفل الحال حال اللّه”.
كما تحذر الأمثال الشعبية من التغيير لمجرّد التغيير فحسب دون قراءة عواقب ذلك سواء كان هذا التغيير يتعلّق بالفرد وحده أو بالجماعة، فتأمرك بأن “شد مشومك حتّى لا يأتيك ما أشوم منه” كما في المغرب العربي أو “تمسّك بقُريْدك حتى لا يأتيك ما أقرد منه” كما في الخليج و”مجنون تعرفه ولا عاقل لا تعرفه” كما هو متداول في شرق الوطن العربي ومغربه.
12