" أمثال شعبية" لعبد الحميد بن هدوقة المنهجية و الإحالة
يجب الاعتراف بأننا وددنا تقديم هذا الكتاب المنسي، بدل التوغل في أمور أخرى، لذا توخينا طريقة العرض للكشف عن القيمة الكبيرة لبحث أصيل ظل مهملا.
يشير الباحث في مقدمة الكتاب الى أسباب الاقتصار على الامثال المتداولة في قرية الحمراء التي ستغدو مخفزات جوهرية للتأليف.
ولادته بقرية الحمراء: حيث أدرك جوهر الامثال ومستويات الوضع (REPERTOIRE) والاستعمال (USAGE): "أنا إذن أتحدث عنها من الداخل" (1) وهو يدرك تمام ادراك المسائل البلاغية والخطابية، ونحن لا نشك في هذه القيمة المعرفية التي ستتجلى بشكل بيّن في دقة المصطلحات الموظفة، وهي المصطلحات ذاتها التي نجدها في اللسانيات الاجتماعية وفي بعض حقول السيمياء وتحليل الخطاب بالمفهوم المعاصر.
وهو بذلك لا ينخدع بالصيغ والمفردات لتحكمه في الزمان والمكان والمقام، ويعد العنصر الاخير القاعدة الاساسية التي ستوجه الاستقبال.
موقع الحمراء:
يشير الباحث الى أهمية الموقع الجغرافي لهذه القرية المعلقة في أعالي الجبال الحجرية المحيطة بالمنصورة، وهي القرية التي تجري فيها وقائع رواية الجازية والدراويش.
تعتبر الحمراء، استراتيجيا، نقطة تقاطع لسانين، فهي تقع في القبائل الصغرى، أما من الناحية العرقية فهي همزة وصل بين الجنوب والشمال، في الجنوب والغرب قرى عربية اللسان، وفي الحدود الشرقية والشمالية توجد قرى بربرية، وهذا التقاطع الموقعي/اللساني يجعلها نموذجا للأمثال الشعبية الجزائرية. الامر الذي جعل الباحث يعلق قائلا:
"إن أمثالا متداولة في قرية منعزلة عن العالم" (2) نجدها سائرة في الجزائر وفي المغرب العربي، وهي قائمة بصيغ متباينة في الخطاب العربي قديمه وحديثه لهي "خير تعبير عن هذه اللحمة المجتمعية والثقافية والحضارية للشعب الجزائري الواحد، مهما تباعدت جهاته...خير دليل كذلك على هذا التداخل للنسيج الثقافي والحضاري والمجتمعي بين مختلف الشعوب العربية..."(3).
ونحن نشير عرضنا، بفتح قوسين نراهما ضروريين، الى أن الحمراء كمكان قيمي (ESPACE VALORISE) سيكون له دور واضح في أقلمة هذه الامثال ومنحها خصوصية بارزة كما يتجلى ذلك المستوى المعجمي، وعلى مستوى تحريف بعض الأنوية الدلالية (NOYAUX SEMANTIQUES) المؤسِسة، أو التي تبدو تاريخيا مسابقة متداولة.
يشير الكاتب، ولأسباب محض منهجية، الى أنه يسجل التجاور القائم بين أمثال الحمراء والأمثال الجزائرية إلا القليل منها لغاية تدليلية، كون هذه الامثال ذكرت من قبل ودرست في مؤلفات، ثم أن الهدف من الكتاب لا يتمثل في التنظير والمقارنة من حيث تطور الصيغ والاستعمالات والمدلولات، لأن ذلك لا يدخل في اهتماماته الادبية إذ ركز على:
- التعليق والشرح.
- تقريب المثل من الادراك.
- تقديم سياق القول للكشف عن الدلالة القديمة والدلالة المستحدثة.
- التأكيد على مقام المثل حتى لا يضيع المعنى.
- التوسع في اللغة وإعادتها الى أصولها الحقيقية، الامر الذي سيساعد ولو ضمنيا بالكشف عن النصوص المهاجرة.
يمكننا أن نلاحظ أن توضيحات عبد الحميد بن هدوقة ليست سوى طريقة من طرق إيهام المتلقي بأن كتابه ليس أكاديميا كونه فضّل إعطائه صبغة أدبية تحبب الطالب في المطالعة. وهذا أمر يعكس تواضعه المعهود إذ أن الطريقة المتوخاة ستلغي ما ذهب إليه، وستبرز بشكل لا يدعو مجالا للشك أنه كان يعرف جيدا، كيف يؤطر المثل من كل الجوانب، بالتأصيل والموازنة وبالعلامات الدالة عن الانزلاقات والانزياحات المعرفية والمفهومية والوظائفية، ولو أنه كان يختبئ أحيانا وراء المسكوت عنه خشية الوقوع في المقاربات الضمنية البلاغية للرؤى المضادة التي تنطلق في قراءة المثل من مواقع مؤسسة على مرجعيات أخرى غير التي اتكأ عليها. أي أنه كان يتفادى باستمرار تسييس المثل الشعبي وحصره مكانيا وزمنيا ولغويا.
يشير الباحث لاحقا الى ذلك، وبصريح العبارة قائلا: "ذلك إذن هو المنهج الذي اتبعته" *
- إيراد المثل.
- ذكر سياق القول.
- المدلول الاخلاقي والاجتماعي.
- الاتيان بمثل أو أمثال مشابهة له، أو ذكر أشعار مجاورة دلاليا.
- الاشارة الى القصص المتعلقة بالمثل.
أما من حيث ترتيب الأمثال، فقد اعتمد الباحث على منهجية لها ما يبررها سياقيا.
- الاعتماد على الترتيب الابجدي لأن ترتيب الامثال حسب الموضوعات أمر لا طائل من ورائه. ونحن نلاحظ ببساطة أن عبد الحميد بن هدوقة أراد تفادي التصنيفات الموضوعاتية لإدراكه بأنه الموضوع يحدد المقام ومستويات التلقي، ومن ثم صعوبة التأكيد على أن المثل يحيل على موضوع محدود محدد.
قد يأتي المثل الواحد في سياقات متباينة ومن ثمة قابلية انحراف الموضوع الفرضي:
- الاعتماد على الحرف الاصلي الاول للكلمة أو للفعل حسب اصطلاح القواميس اللغوية الحديثة.
- إهمال الزوائد مثل "الـ" التعريفية.
- الاهتمام بحروف التشبيه وحروف الجر ولفظة التدوين.
- وضع فهرس تحليلي للأمثال مرتبة بصورة تقريبية حسب الموضوعات.
- وضع مجموعة أخرى من الفهارس تحيل على أرقام الامثال الواردة في الكتاب.
- اقتراح معجم لغوي لمعظم الكلمات التي تحتوي على قاف معقودة تنطق كالجيم المصرية أو على قاف عادية.
استراتيجية المدخل:
أشرنا الى أن الباحث له دراية بالمسائل الأكاديمية، لذلك ركز على الجزئيات وعلى الادوات الاجرائية الهادفة الى عرض المثل وموقعته وتعريفه حتى لا يقع أي لبس قد يؤدي الى بروز فجوات منهجية تحك من قيمته. لذا لجأ الى:
- تعريف المثل.
- التمييز بين المثل والحكمة وبينها وبين القول السائر.
- التأكيد على مكانة المثل في الادب الشعبي.
المثل والإحالة:
لاحظنا بكثير من الإعجاب، الثقافة الموسوعية للباحث الذي اعتمد على مرجعية مركبة غاية في الدقة، وليس من السهل التأصيل للمثل وإبراز تماسه (CONTINGENCE) مع حقول معرفية أخرى، ونظرا لهذا الثراء المتفرد سوف نقتصر على بعض النماذج تاركين لدارسي الادب الشعبي متعة اكتشاف هذا العمل النيّر.
*الحديث النبوي:
"الزين ما بنى الديار، الزين في الافعال"
يرجع هذا المثل الى الحديث الديني الشريف: "إياكم وخضراء الدمن". وهي المرأة الحسناء في منبت السوء.
*الشام شام وكل بلاد مواليها شام". يقال هذا المثل في حب الوطن وهناك حديث معروف يقول: "حب الوطن من الايمان" والظاهر حسب الكاتب أن "الشيخ الحوت" في كتابه "أصفى المطالب" قال أنه حديث موضوع.
والمثل ذاته يتقاطع مع قول ابن الرومي:
"ولي وطن آليت أن لا أبيعه وأن لا أرى غيري له الدهر هالكا.
نشير لغاية توضيحية، أن المعنى متداول عبر العصور، في المثل والشعر والنشر لكنه يتعذر على أي كان التأصيل له تأصيلا منتهيا بحكم تعدد القنوات الناقلة له، إضافة الى صعوبة تحديد النص المؤسس بسبب هجرة الاشكال والمعاني يالاتكاء على الطابع الشفوي المتميز بالتحريف، بالحذف والإضافة ومحاولة "خوصصة" المعارف واحتكارها لغايات بينة تمثل أولاها في تفعيل المركزية، كما يحدث في المجالات الاخرى.
*النحو والبلاغة:
"عاش من عرف قدرو"
يرجع "الميداني" أصل هذا المثل الى "المفضل" نقلا عن "الميداني" ويسند المفضل هذا المثل الى أكثم بن صيفي في وصية كتبها الى طيئ: "أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم..وعليكم بالخيل فأكرموها ولا تضعوا رقاب الابل في غير حقها فإن فيها ثمن الكريمة ولن يهلك أمرؤ عرف قدره. (مجمع الامثال للميداني، الجزء الثاني).
*الشعر الفصيح:
"كل جديد عندو لذة"
أصل المثل بيت شعري جاء في سياق مميز، وقد حذف شطره الثاني لغاية استعمالية. وينسب المثل للشاعر الحطيئة لما حضرته الوفاة فجاء أهله وبنو عمه يطلبون الوصية فقيل له يا حطيئ أوص فقال وبما أوصي؟ مالي بين بني. قالوا: قد علمنا أن مالك بين بنيك فأوص. فقال ويل للشعر من رواية السوء. فأرسلها مثلا. فقالوا: أخبروا أهل ضابئ بن الحارث أنه كان شاعرا حيث يقول:
لكل جديد لذة غير أنني وجدت جديد الموت غير لذيذ
"اللي ما عندوش القلب يموت سمين"
يقال هذا المثل في الأبله والغبي وفي كل إنسان سخيف الحس، وهو قريب من قول أبي الطيب المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
وهو بيت من قصيدة يمدح بها ابن أحمد المري الخرساني ومطلعها:
لا افتخار إلا لمن لا يضام مدرك أو محارب لا ينام
*الشعر الشعبي:
"الحديث قياس"
قد يكون هذا المثل متأثرا أو مؤثرا في قصيدة تونسية تراثية، وفي الحالتين نلاحظ هجرة المعاني وانحرافها من حيث الصياغة والبناء.
يحيلنا الباحث على كتاب الادب الشعبي لمحمد المرزوقي الذي يتضمن قصيدة الشاعر التونسي أحمد بن موسى يقول فيها:
شد الصحيح ولا يغرنك دينك راهو بليس في العـــــقل وســـواس
في الحق تكلم وصحح عينيك ومع حبــيـبــك ما تـــشــــد البـــاس
ثبت عقلك واوزن أما زيــنك من قبل ما تخطب أنشد على الساس
إذا حصلـــت زايد تخرنـينـك هذي المــعنى والـحــديــث قيـــــاس
"أدهن السير يسير"
هذا المثل هو اقتصاد بليغ لنوعية العلاقات البشرية المهيمنة، وهو إشارة ذكية لهيمنة المال على حساب القيم، ولو بنفي الكرامة: "على مصلاحتي نسمي الكلبة خالتي".
يشير الباحث الى أن هذا المثل المتواتر في المغرب الكبير مذكور في كتاب القول المأثور من كلام الشيخ عبد الرحمان المجدوب للمؤلف نور الدين عبد القادر:
أدهن السير يسير وبه ترطاب الحرازة
النقبة تجيب الطير من باب السوس لتازة
والهدف من المثل والبيتين الشعريين يتمثل في تعرية مبدأ الرشوة، وكيف يمكن لهذه الاخيرة الاسهام في قضاء الحاجة، لذا استعمل الشاعر كلمة "النقبة" الدالة على القمح، أو أية طريقة أخرى تجعل الطائر (أو الانسان) يقطع مسافة معتبرة للحصول عليها (من مدينة الى مدينة تازة)، وهذا الاقتصاد السردي سيسهم في تقوية المعنى وشحن الملفوظ بدلالة سميكة الهدف منها تبيان منطق المرتشي.
"المربي من عند ربي"
هذا المثل المتداول بين الناس إشارة ضمنية الى بعد غيبي يتعذر تفسيره وقد ربطه عبد الحميد بن هدوقة بقصيدة مشهورة لعبد الرحمان المجدوب، ونحن نلاحظ التجاور الدلالي الكبير بين المثل والشعر، والأمر الذي يقودنا، من الناحية السيميائية الى إعادة التذكير بكيفية القول (le comment du dire) وهي الاشكالية التي طرحها الجاحظ منذ أجيال، وستظل قائمة.
يقول عبد الرحمان المجدوب:
ود الحمار لا تربيه لو كان تدهن زنوده
الصك والعض فيه هذيك عادة جــدوده
وفي هذا المقام يقدم الباحث أهم الاستعمالات والانزلاقات الدلالية بين المثل في المغرب وتونس والجزائر، نظرا لاستغلاله وفق منظورات يتحكم فيها المقام والدافع. وهي بطبيعة الحال مسائل منطقية يتطلبها البلاغ للتدليل على صحته، كون الاسناد في حد ذاته سيلعب دورا وظيفيا مهما، خاصة عندما يتعلق الامر بمآثر الاولياء والأجداد الذين لهم باع في التجربة والحكمة. ولعل ذلك ما يبرر مثلا عن نوع: "سال المجرب ولا تسال الطبيب".
*المثل الفصيح:
يشير الباحث الى أن هناك تقاطعا بين "المثل الفصيح" و "المثل الشعبي" دون أن يعطي مبررات لذلك، وهذا راجع في نظرنا، الى الانزلاق البنيوي من شكل لغوي الى آخر بحسب المنطقة التي تستغل المثل، ونحن نلاحظ دون أي عناء الاختلافات الصوتية والبنائية بمجرد حدوث انفصال مكاني، أو بمجرد هجرة المثل من موطن الى آخر.
"صام عام وفطر على جرادة"
وهذا المثل نفسه متداول في الجزائر باستبدال لفظي؟؟ إذ نجد "جرانة" مفهوم ضفدع بدل جراد.
وليس بعيدا عنه، نجد مثلا آخر لم يحافظ سوى على النواة الدلالية، وهو مثل شائع في الجزائر يتعذر التأصيل له:
"راح لبلاد النسا وجاب عجوزة"
وهذان المثلات يتقاطعان بشكل أو بآخر مع المثل الفصيح المتواتر في الوطن العربي:
"صام حولا وشرب بولا"
"سكت دهرا ونطق كفرا"
والظاهر أن البنية الصوتية قد تلعب دورا مهما في نقل المثل من هيئة الى أخرى لتسهيل حفظه، كما هو الشأن بالنسبة للشعر. ونحن نعرف دور الايقاع في القرآن الكريم كما تؤكده دراسات كثيرة.
مسألة الاستعمال:
تشير البلاغة واللسانيان والسيمياء وبعض المناهج الحديثة الى أهمية القراءة السياقية وضرورة دراسة المستويات الثلاثة للجملة: مستوى التجلي، المستوى النحوي والمستوى الدلالي، ودون الدخول في تفاصيل نظرية البلاغ تؤكد على أهمية الوضع والاستعمال تفاديا للتلقي الحرفي للملفوظ والخطاب وهي مسألة أشار إليها البلاغيون العرب وتناولوها بكثير من الدقة، وحتى في المجال القرآني يحتكم بعضهم الى "أسباب النزول" لمعرفة الجانب الاستعمالي، ومن ثمة محاولة الاقتراب من المعنى.
وقد انتبه عبد الحميد بن هدوقة الى هذه المعضلة المتمثلة في مستويات الاستقبال، دون توظيف المصطلح النقدي، غير أن طريقة العرض والتحليل تشير الى أنه كان يدرك ذلك إدراكا جيدا.
"الفاهم بغمزة والجاهل بدبزة"
الزيت يخرج من الزيتونظـة والفاهم يفهم لغة الطــير
لي ما تخرج كلمتو موزونة يحجبها في ضميرو خير
ولقد فسر الشيخ نور الدين الرباعية بقوله: الفرع يساوي الأصل، إشارة الى أن الزيت يخرج من الزيتونة، أما بقية الرباعية فحصرها في مثل شائع، مستقى من بيت شعر: "اللبيب بإشارة يفهم"، بمعنى قريب من قول الشاعر:
العبد يقرع بالعصى والحر تكفيه المقالة
ونحن نشير بدورنا الى أن البيت ورد في سياق محدد ولده المنطق السائد، وهو منطق الغالب، لا يبدو البيت غير منسجم مع الجانب الديني ومناقضا للمنطق أيضا.
التقفيلة:
هدفنا الاساس من خلال هذا العرض المقتضب تنبيه المتخصصين في الادب الشعبي الى أهمية هذا الكتاب النادر الذي يحتوي على معارف موسوعية يصعب العثور عليها في كتب أخرى.
نشير أيضا أننا علقنا على بعض الامثال للضرورة المنهجية، خاصة عند الاشارة الى المجاورات الدلالية والانحرافات اللفظية والبنائية، والهدف من ذلك التلميح الى مسألة هجرة البلاغ ومحاولة تأقلمه مع الجهات المستقبلة له، غير أننا لم نفصل بعض القضايا تفاديا للولوج في بحث موسوعي.
الاحــــــالات
- عبد الحميد بن هدوقة: أمثال جزائرية، الجزائر 1993 ص 7
- المصدر نفسه، ص 8
- المصدر نفسه، ص 9
*هناك فرق بين المنهج والمنهجية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق