د التفكير المنطقي للعق قوة لا يستهان بها – من المسؤول عن التأثير الناتج عن مشاهدة الأفلام؟!
الأمثال الشعبية في تراثنا – هل لها علاقة بالمنطق ؟ وما مدى صحتها من خطئها ؟
يمتلئ تراثنا الشعبي بالكثير من الأمثال التي ما زلنا حتى يومنا هذا نتداولها في المواقف الحياتية المختلفة، لأنها تحوي الكثير من العبر والحكم التي تعبر عن تلك المواقف في بضع كلمات مختصرة.
ما لا يعرفه الكثيرون أن من تلك الأمثال الشعبية ما يعبر عن تفكير وثيق الارتباط بأسس منطقية، وأنّ علم المنطق ليس ببعيد عن التفكير الفطري لأجدادنا.
قد يتعجب البعض من تلك المقدمة لكن بعد التعمق في بعض الأمثال سنجد صحة ما ادّعيناه، وإليكم أمثلة على ذلك…
*نقول ثور يقولوا احلبوه!
المثل يتحدث عن استحالة انتاج الحليب من الثور، حيث أن الحليب هو منتج من البقر الأنثى وليس الذكر، ويقال المثل في المواقف التي يصر فيها البعض على فعل أمر ما يستحيل الحصول منه على النتيجة المطلوبة، وبنظرة أعمق نجد أنه مبني على أساس منطقي وبديهية عقلية تقول إنّ فاقد الشيء لا يعطيه، أي ما لا تمتلكه لا تستطيع إعطاءه، فكيف للثور الذكر أن يعطي حليبا وهو لا يمتلك ما ينتج ذلك الحليب؟
*مفيش دخان من غير نار!
المثل يتحدث عن أن ما نراه من آثار ونتائج لا بدّ لها من أسباب، ويستخدم في المواقف التي نرى فيها بعض التصرفات ونتعجب منها، لكن لا بدّ لنا أن نتوقع أن هناك أسبابا أدت لتلك التصرفات والنتائج، وهذا المثل مبني أيضا على بديهية عقلية مفادها أن لكل نتيجة سببا ولكل معلول علة، فلن يتواجد الدخان من دون السبب المؤدي له وهو النار.
*يموت الزمار وصوابعه بتلعب!
هنا المثل يتحدث عن الطبع وكيف أنه ليس من السهل التخلي عنه بل يلازم صاحبه حتى بعد الموت، فالمثل ينظر نظرة عميقة للنفس البشرية ويتحدث عن الصفات الأخلاقية ومدى تمكنها من النفس حتى تحولت إلى ملَكة لا يسهل الفكاك منها، بل أن مدى تأصلها في النفس يجعلها تظهر بشكل تلقائي في كل حركات الإنسان وسكناته، حتى أنه إذا وافته المنية تظل تصرفاته وسلوكه مطابقا لتلك الملكات الأخلاقية وظاهرة عليه،
وعلى غرار ذلك المثل هناك أمثلة كانت أكثر وضوحا مثل (الطبع بيطلع بعد الروح) وأيضا (ديل الكلب عمره ما يتعدل). تجدر الإشارة إلى أن تلك المَلكات الأخلاقية والطباع والصفات ليس من المستحيل تغييرها، هناك صعوبة حقيقية بالفعل للتغيير، بل إنّ الإنسان يشعر بالألم النفسي ليسلك فعلا مخالفا لتلك الصفات، لكن التغيير ممكن إذا توافرت الإرادة الحقيقة لتحقيقه.
*الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح!
المثل يتحدث عن البحث عن أصل المشكلة لحلها، فإذا كانت هناك رياح تزعجك وتكدر صفوك، فابحث عن مصدرها، سواء كان ذلك بابا أو شباكا، وأغلقه لترتاح وتنتهي المشكلة، وهو ما يعرف في علم المنطق بالبحث عن ذاتيات المشكلة لحلها من جذورها، وليس الاكتفاء بحل الظاهر وترك جوهرها، فهناك من يحاول التخلص من الرياح بأن يزيد من ملابسه مثلا ليتحمل برودتها أو يغمض عينيه حتى لا تؤذيها الرياح، كل تلك الحلول لا تعالج أصل المشكلة، ولن تستطيع الاستمرار طويلا بهذه الحلول، لكن إغلاق الباب ينهي مشكلة الرياح من أساسها، وهذا هو الحل الناجح.
*إذا عرف السبب بطل العجب
هذا المثل يتحدث عن البحث وراء الأسباب، أي أن منبعه مرة أخرى #البديهة_العقلية أن لكل نتيجة سبب، لكن أضف إلى هذا أنه يتحدث عن حاجة فطرية في نفس الإنسان للبحث عن تلك الأسباب وإشباع الجوع المعرفي. بسبب تلك البديهة دائما ما يتساءل الإنسان عما يراه حوله من مواقف ونتائج، ويتعجب لها حتى يفهم علتها والسبب المؤدي لها، حينها فقط يشعر بالراحة، لأن الروح كما الجسد تبحث عما يسد جوعها، فالطعام يسد جوع الجسد، والمعرفة هي ما يغذي الروح ويرتقي بها ويكون مصدرا لسعادتها.
*هو سلق بيض؟!!
المثل يتحدث عن السرعة مع عدم الاتقان في العمل، وجاء التشبيه مع سلق البيض لأنه عمل سريع لا يحتاج إلى وقت ولا يحتاج إلى تفاصيل في أدائه، وفي ذلك المثل تم استخدام صورة أساسية في ترتيب المعلومات المنطقية وهي القياس. لقد بدأ بالمقدمة الكبرى أنّ “سلق البيض عمل سريع وليس فيه إتقان”، ثم المقدمة الصغرى أن “هذا العمل سريع وليس فيه إتقان”، فنصل للنتيجة أن هذا العمل مثل سلق البيض.
*اقلب القدرة على فمّها تطلع البنت لأمها
يستخدم المثل لتشبيه الإبنة بوالدتها، في الواقع هذا المثل قد يحوي جدلا كثيرا، فليس لزاما أن يشابه الأبناء آبائهم، والبعض يرفضه لما يحمله من حتمية مشابهة البنت لأمها، ففي ذلك جبر على أخلاق وطباع الآباء، وبالفعل يوجد الكثير من الأبناء الذين اختلفوا اختلافا كليا عن آبائهم، فما مدى صحة ذلك المثل؟
الخطأ الموجود في هذا المثل ناتج عن خطأ في أسلوب التفكير يسمى تعميما، أي أنّه فحص بضعة حالات تشابهت فيها الأم مع ابنتها بل تكاد تكون تطابقتا واعتبر النتيجة قانونا ثابتا يسري على الجميع، وهو ما يسمى في علم المنطق الاستقراء الناقص، هو ناقص لأنه لم يمر على جميع الأفراد ليتأكد من صحة القانون الذي استنتجه، وبذلك فهو يؤدي إلى نتيجة ظنية وليست حتمية.
في الحقيقة هو أيضًا يحمل جزءًا لا بأس به من الصحة، لأنه في الفترة الأولى من حياة الطفل تكون المؤثرات أغلبها نابعة من تربية الأم وطباعها وأخلاقها، ويظل تأثير تربية الأم لابنتها ظاهرًا حتى تستقل بحياتها وتبدأ عوامل خارجية في التأثير عليها، فمن الممكن اعتبار الفترة الأولى من حياة أي إنسان ما هي إلا مرآة لوالديه، وحتى بعد مضي الكثير من الوقت في حياة الاستقلالية يظل أثر التربية ظاهرا في نفوس الأبناء، ويتغير هذا الأثر بقدر عزيمة وإرادة الشخص نفسه على هذا التغيير.
هذه العلاقة التربوية ما هي إلا ترجمة عملية للبديهية العقلية التي تقول إنّ لكل معلول علة، أو بصيغة أخرى النتيجة التي نراها في أبنائنا لا تأتي من فراغ، في الأغلب نحن مسبباتها حتى تؤتي المؤثرات الخارجية مفعولها. وهناك مثل مشابه له (هذا الشبل من ذاك الأسد) يقال على الابن والأب ويحمل نفس المعنى ولكن بصورة إيجابية.
ليس كل الأمثال صحيحة ولا كلها خاطئة
إن المثل الأخير يلفت النظر أنه ليست كل الأمثال صحيحة في معناها وقد تحمل خطأً في التفكير، الأمر الذي يوجب التدقيق في معاني تلك الأمثال وتحليل ما هو مشهور بيننا لكيلا نقع في فخ التفكير الخاطئ من تعميم ومبالغة وثنائية فكرية.
تلك كانت بضعة أمثال تمثل جانبا من التفكير المنطقي في #الفطرة_الإنسانية، وهي حجة لمن يدّعي صعوبة علم المنطق وغربته عن التفكير الإنساني، بل هو عين الفطرة الإنسانية قبل تشوهها، وانغماسها في الملذات المادية وانشغالها بالحياة السريعة التي لم تترك لنا الفرصة للتفكير والبحث والتدقيق في الحياة والكون من حولنا.
اقرأ ايضاً:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق