نص وحوار
الفأس والرأس.. اللقمة والرأي!
في بعضٍ من الأمثال الشعبية، والأقوال السائرة، التي تتوارثها الأجيال، ولا يمكن نسبها إلى شخصٍ بعينه، نَعْثُر على كنوز من الفكر والمعرفة، بعضها فيه من العلمية الاجتماعية ما يرقى به إلى مرتبة
"القانون (العلمي الاجتماعي)"، أو، على الأقل، إلى ما يُقاربه؛ ولكنَّه يفوقه "جمالاً"؛ لكونه مُزدان بلغةٍ أقرب إلى لغة الشِعْر منها إلى لغة العلوم.
أمَّا ما يَحْملني على مشابَهة بعض الأمثال الشعبية بالقانون العلمي (الاجتماعي) فهو الخواص والسمات المشترَكة، والتي في مقدَّمها العمومية والشمولية، والتكرار.
ومن هذا المَدْخَل أدْخُلُ إلى مَثَلٍ شعبي (أو قول سائر) رأيتُ فيه من عِظَم المعنى، أو المعاني، إذ أنعمتُ فيه النظر، ما يرقى به ليس إلى مرتبة القانون العلمي الاجتماعي فحسب؛ وإنَّما إلى مرتبة نظرية سوسيولوجية في منتهى الأهمية العلمية والعملية.
وهذا المَثَل هو "مَنْ لا يأكل من فأسه (أو مَنْ لقمته ليست من فأسه) لا يكون رأيه من رأسه"!
ما أكثر النظريات والتصوُّرات السوسيولوجية، بقديمها وجديدها، وما أشد اختلافها وتباينها وتضادها؛ ومع ذلك، تعود، في معظمها، إلى أصلين اثنين: المادي والمثالي.
والمَثَل الشعبي الذي أتيتُ على ذِكْرِه فيه من العلمية في النظر إلى الظواهر الاجتماعية والفكرية والثقافية ما يجعله منتمياً، من حيث الجوهر والأساس والمبدأ، إلى "التفسير المادي".
وإنِّي لأرى في ضَعْف صلتنا نحن العرب بهذا التفسير، وفي الوقت الحاضر على وجه الخصوص، مَصْدَراً لكثيرٍ من المصائب التي حلَّت، وتحلُّ، بنا؛ ولو نحن تمثَّلْنا المعاني التي ينطوي عليها هذا المَثَل، وتوسَّعْنا فيها، وتفرَّعنا، لتغلَّبْنا على كثيرٍ من الأزمات التي نعانيها في طرائقنا في التفكير، وفي النظر إلى الأمور؛ فلا تغيير قبل تفسير صحيح؛ ولا تغيير بالتفسير الصحيح وحده.
مِنَ "الفأس"، بصوره ودرجاته ومعانيه المختلفة، وليس من "العقل"، أو مِمَّا يشبهه، يمكن؛ بل يجب، أن ننطلق ونبتدئ، فهنا يكمن ما هو في منزلة "العاصمة" في عِلْم الاجتماع.
و"الفأس"، الذي منه يبدأ كل شيء، هو "علاقة".. علاقتنا به، والتي قوامها، على ما يجب، أنْ نملكه، وعلاقته بنا، والتي قوامها، أنْ يُمَلِّكنا "لقمة العيش"، أي أن يُسْتَعْمَل بما يُمكِّننا من أن نلبِّي بأنفسنا حاجاتنا الأوَّلية والأساسية كالمأكل والمسكن والملبس.
إذا كنتَ أنتَ المالِك (القانوني والحقيقي) لهذا "الفأس"، وإذا ما استعملته بما يُمكِّنكَ من إنتاج "لقمة عيشك"، بمعنييها الضيِّق والواسع، فأنتَ، عندئذٍ، تستطيع أن تَجْعَل "رأيكَ" من "رأسكَ"، وليس من رأس غيركَ، أي تصبح من ذوي الإرادة (السياسية) الحُرَّة، أي "المقيَّدة" بقيود مصلحتكَ فحسب، وممَّن يتوفَّرون على إنشاء وتطوير الآراء والأفكار والتصوُّرات التي يحتاجون إليها هُمْ، وتشبه مصالحهم وحاجاتهم الحقيقية، وواقع عيشهم، فَكُلْ من فأسكَ الذي تملك يصبح رأيكَ من رأسكَ.
وأنتَ، في المعنى الآخر والمضاد، يكفي أن تصبح غريباً عن "فأسكَ"، وعن نتاجه، حتى يصبح "رأيكَ" غريباً عنكَ، وكأنَّ "قدركَ" هو أن تستوطن رأسكَ "آراء" هي كالريح تجري بما تشتهي سفينة غيركَ.
إذا كانت "لقمة العيش"، المتأتية من "الفأس"، في حياتنا الاقتصادية العربية، الآن، هي كناية عن كل منتوج أو بضاعة أو سلعة تلبِّي لنا، من خلال استهلاكنا لها، حاجة أساسية، أي حاجة للبقاء الفيزيائي والحضاري، فإنَّ "الفأس" هو كناية عن "الأصول"، وعن كل ما ينبغي لنا امتلاكه واستعماله قبل، ومن أجل، أنْ نُنْتِج هذا المنتوج أو البضاعة أو السلعة.
"لقمة العيش"، عربياً، هي الآن، وفي المقام الأوَّل، القمح، وسائر الحبوب، ومواد الغذاء الأساسية، والماء الصالح للشرب الآدمي، والكافي للريِّ الزراعي، والطاقة التي فيها من الاستقلال عن الخارج ما يُظْهِر ويؤكِّد حرصنا على الاستقلال القومي الحقيقي، والملبس والمسكن.
من قبل، كان لدينا "الفأس"، فَنُنْتِج به "لقمة عيشنا"؛ أمَّا الآن فأدخلوا في رؤوسنا من "ثقافة الاستثمار" ما عاد بالنفع والفائدة على مصلحتهم في انتزاع "الفأس" من يدنا، وفي مسخ وتشويه حياتنا الاقتصادية، فما عُدْنا نُنْتِج من السلع إلاَّ ذاك الذي إنْ بِعْناه لهم (وينبغي لنا أن نبيعه) امتلكنا أكواماً من "الورق"، بعضه نشتري به كل شيء تقريباً، أي كل أو معظم "لقمة عيشنا"، وبعضه نتركه عندهم، فيزدهرون بفصله اقتصادياً، أي في "اقتصادهم الحقيقي" على وجه الخصوص، ونزدهر نحن (أفراداً وشركات وحكومات) ازدهاراً "ورقياً"، فالمليون من "الورقة الخضراء" أصبح مليوناً ونصف المليون؛ وإنَّها لتجارة تغني العرب عن الصناعة والزراعة.. وسائر أوجه "الاقتصاد الحقيقي"!
نحن سكَّان "الوطن العربي الكبير" لا نملك منه إلاَّ "سطحه"، أو ما تيسَّر لنا من "سطحه"؛ أمَّا "باطنه"، حيث النفط والغاز وسائر الثروات الطبيعية، وأجواؤه، وفضاؤه، فيملكه غيرنا، وإنْ توهَّمنا، وأوهمونا، غير ذلك.
طائعون، أو مُكْرهون، أخذوا مِنَّا "الفأس"، ثمَّ حالوا بيننا وبين استعادته، فتحكَّموا في "لقمة عيشنا"، وبسطوا سيادتهم (الفعلية) على "الباطن" و"الأجواء" و"الفضاء" من "وطننا العربي الكبير"؛ وبعدما حوَّلوا "ثرواتنا الحقيقية" إلى "ثروات ورقية ونقدية"، أحكموا قبضتهم الفكرية على عقولنا الاستثمارية، فاستثمرنا جزءاً كبيراً منها؛ ولكن بما أثمر في إنتاج العشرات والمئات من أمثال "قارون"، وفي إعادة إنتاج الفقر الشعبي والقومي، والتوسُّع في إنتاجه، وكأنَّنا في تجربة تاريخية تصلح لتعليم العالم كيف يجتمع، اجتماع السبب والنتيجة، الثراء الطبيعي للوطن والفقر الاقتصادي لأبنائه، فأفقر البشر هم أبناء أغنى الأوطان (بالنفط والمعادن..).
كنَّا نُنْتِج القمح (وسائر الحبوب) والقطن.. فتعاونَّا مع القوَّة الإمبريالية "الحبوبية" العظمى في العالم على تدمير قوانا المنْتِجة للقمح وسائر الحبوب، فأصبحنا في تبعية "حبوبية" لها، سرعان ما تُرْجِمَت بتبعية سياسية، عملاً بقانون "مَنْ يأكل من غير فأسه لا يكون رأيه من رأسه".
وسرعان أيضاً ما أنتجت مأساتنا تلك المهزلة.. مهزلة المساعدات (والمِنَح والقروض) المالية التي نتلقاها من الولايات المتحدة، والتي كلَّما تلقَّيْناها، أو تلقَّيْنا مزيداً منها، تراجع وهبط منسوب الحرِّية والاستقلال في إرادتنا السياسية، واتِّسعت رؤوسنا لمزيدٍ من آراء ومفاهيم تفيدهم وتضرنا.
مَنْ يساعِد مَنْ مالياً؟
إنَّها المهزلة بعينها نراها في الإجابة، فالمدين الأكبر لي هو الذي يساعدني (مالياً)!
في "العلاقة الدَّيْنية" بيننا وبين الولايات المتحدة، نحن الدائن الأكبر لها، وهي المدين الأكبر لنا؛ وها هي، مع ذلك؛ لا بل بفضل ذلك، تساعد دولنا مالياً، متَّخِذة من تلك المساعدة رقبةً لها، أي تملكها هي، فتحرِّك بها "الرؤوس" في دولنا!
حتى النفط، الذي على سطح بحيراته نعيش، فكَّرت، ذات مرَّة، في "نقله" إلى أراضيها، على ما يكتنف تحقيق هذه الفكرة الإمبريالية من مصاعب موضوعية.
لقد سعت في إقناعنا بفكرة "استئجار النفط" كاستئجار عقار أو منزل، والتي بحسبها، نَسْتَخْرِج كل ما نستطيع استخراجه من نفط من بواطن أرضنا، فتحمله سفنها وبواخرها إلى أراضيها، ليُخزَّن فيها؛ ويبقى مُخزَّناً فيها، لا تتصرَّف به، عملاً بشروط "عقد الإيجار"؛ ولكنها تَدْفَع لمالكيه، أي نحن، إيجاراً سنوياً، إلى أن "يقرِّر" المالِك أن يتصرَّف به تصرُّفاً آخر!
ولمَّا ثَبُت لديها، وتأكَّد، أنَّها عاجزة، لأسباب موضوعية، عن نقل آبار وحقول واحتياطات نفطنا إلى أراضيها، أو "جر" شرق الجزيرة العربية إلى ضواحيها، قرَّرت أن تأتي هي بجيوشها إلى أفغانستان والعراق، وتصبح، بالتالي، من دول "الجوار العسكري" لنا.
لقد أخذوا منا، أو أعطيناهم، طائعين أو مُكْرهين، "الفأس" التي نملك، و"لقمة العيش" المتأتية منها، فحلَّ بنا ما حلَّ بكل مَنْ يتوهَّم أنَّ منتوجه الفكري والثقافي والروحي لا يتَّصِل بـ "الفأس" و"لقمة العيش" المتأتية منه، اتِّصال النتيجة بسببها، أو أنَّ في مقدوره أن يحيا حياةً فكرية وثقافية وروحية مستقلة وهو يعيش في تبعية في أساس حياته الاقتصادية.
هذا الوهم سرعان ما ذهبت به الحقائق، فالتجربة أكَّدت في استمرار أنَّ ميزاننا الفكري والثقافي والروحي يشبه كثيراً ميزاننا التجاري، فأين هي التجربة التي قد تُقْنعنا بأنَّ الذي جُرِّد من ملكيته لـ "الفأس"، ولـ "لقمة العيش" المتأتية منه، يمكن أن يكون مستقلا حُرَّاً في رأيه وإرادته، وفي طريقته في التفكير، والنظر إلى الأمور؟!
إنَّنا، وفي زمن العولمة الاقتصادية على وجه الخصوص، لا ندعو إلى طوباوية اقتصادية من قبيل الاقتصاد القومي الذي يكفي نفسه بنفسه؛ ولكنَّنا ندعو إلى المزاوجة بين ضرورات العولمة الاقتصادية وضرورات الاستقلال القومي في إنتاج ما يلبِّي حاجاتنا الأوَّلية والأساسية، فمقوِّمات البقاء الفيزيائي والحضاري يجب أن تبقى بمنأى عن آلة الهدم التي في يد العولمة الاقتصادية.
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1202 الاثنين 19/10/2009)
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.
اقرا ايضا
- اللانهائية.. وقفة للتأمل في أعماق الكون؟
- القرآن الألفي.. الإعجاز الخطي في القرآن الكريم
- جوهرُ الهايكو
- سمات الأدب المقارن
- الأسطورة والرمزية التصويرية في شعر السياب
- ضم إسرائيل للأراضي وفزاعة تنفيذ قرارات المجلسين
- مراجعة المواقف واجب
- معاداة الاجانب وتزايد خطر اليمين المتطرف
- العراق بين جبلين
- التعالق الجمالي والفكري .. في حواري مع جمال نوري
تعليقات (0)