المرأة في المثل المغربي
خديجة قوسال
تمهيد:
إن المثل الذي نروم النبش في دفاتره الشعبية يؤسس مدارجه من خلال خصائص يمتح منها كينونته، يأتي في أغلبه متشبعا بالنفحات الشعبية، جمله مركزة، نثرية أو شعرية أو مسجعة، شائعة بين جماعة من الناس، عامتهم وخاصتهم، تلخص موقفا أو تختصر تجربة في الحياة مألوفة، ومن هنا يسكن المثل متاهات اليومي. والأمر فيه لا يقتصر على الوصف، بل يعتمد عادة على الإصداع بالرأي الصريح في مشاكل الفرد أو الجماعة العارضة منها أو القارة، وحاجة الجماعة إليه هي التي جعلته يثبت في أذهان الناس ومعاملاتهم أكثر من أي نوع من فنون القول الأخرى. فهو ذاكرة الجماعة التي لا يطالها النسيان.
وموضوعة المرأة من أهم الموضوعات التي شغلت حيزا هاما في فضاء المثل الشعبي المغربي إلى درجة تحول معها المثل الشعبي المغربي إلى كتاب نسائي، طقوسي، يستقصيها في جميع مراحل عمرها بتشكلها وتشكيلاتها المختلفة، في تيماتها الصغرى.. أما.. أختا.. زوجة.. حماة.. مطلقة.. عانسا وعجوزا غادرها الزمن الحلو. فالمرأة سكنت مغاور المثل وتدرجت عبر الأنثوي والمقدس، هي أنثى مطهمة بحالات وخصائص حين تغادرها تغيب أنوثتها. إذن الثقافة العربية الذكورية ميزت بين لفظين امرأة وأنثى، فالمرأة اسم مجرد يقابله اسم الرجل، اسم يختزل كل النساء في الأزمنة الغابر منها والظاهر، يغيب فيها الاستثناء، بينما الأنثى والأنثوي féminité صفات وحالات إذا تمثلها الجسد الأنثوي فهو مؤنث وإلا فهو خارج الأنوثة. جاء في لسان العرب لابن منظور: "التأنيث خلاف التذكير وهي الإناثة ويقال هذه امرأة أنثى إذا مدحت بأنها كاملة من النساء"[1]. والصفات الأنثوية بالمعاجم الفرنسية على اختلاف تصنيفاتها تذهب عزفا على سمفونية الجسد الشهي، البهي[2]. في مقابل الجسد الولاد. في المعطى الثقافي العربي يزيد عليه مراهنة على المرأة الأنثى في سن معين تبعا لمقاييس وأجهزة بتعطلها تغادر المرأة برج الأنوثة. ومن هنا يكون التأنيث مفهوما ثقافيا وتصورا ذهنيا وليس قيمة طبيعية جوهرية، إنه مفهوم مكتسب أو ممنوح من المعطى الثقافي، وبما أنه مكتسب فهو أيضا متحول وقابل للزوال كما قال الدكتور عبد الله محمد الغذامي في كتابه المرأة واللغة-2- ثقافة الوهم، مقاربات حول "المرأة والجسد واللغة".
المرأة والرافد الجمالي في المثل الشعبي المغربي:
تمارس المرأة في المثل الشعبي قوة استثنائية من خلال الرافد الجمالي، تهزم قيم وعقيدة الرجل، يقول المثل المغربي "على زينها يسلم ليهودي". وهذه غاية المفارقة وأقصى أمدائها، فهي امرأة خرقت المعتاد، مجازية الملامح، يتمثل في جسدها دفق أنوثي يدفعها إلى صدارة المقام الاجتماعي. ثقافة شعبية ألبست المرأة-الجسد دلالات لا متناهية. يقول ميرلوبونتي: ينتصب الجسد كشيء مدرك وككيان مدرك للأشياء.. يشكل نسقا ضمن أنساق أخرى تلوذ جميعها بالكون بحثا عن معنى وعن دلالة. فإذا كانت كل الأشياء لا تدرك إلا من خلال ارتباطها بهذا الكون اللامتناهي الامتداد، فإن كينونة الجسد تكمن أيضا في ارتباطه بكون ما وجسدنا لا يوجد في الفضاء، إنه الفضاء"[3]. يتشكل الجسد الأنثوي إذن، كدال متكامل ومكثف بذاته وقادر على توليد سلسلة لا متناهية من الدلالات[4]. فدالها الجمالي يلغي موقعها المعنوي في الثقافة الذكورية التي تمنحها اختلافا في مقاييس الجمال بين امرأة وأخرى وبين بلد وآخر.
"كل بلاد وأصلها وكل امرأة وزينها"
يدخل المثل في القوى الغيبية ويتحكم في إرادة ربانية فيقدم معطى عن آخر: "وْلْدْ بنتك زوينة مَّا الحْدَاكَة تْعَلّمْهَا، تْعَلّمْهَا"، في حين يظل الرجل المغربي أسير الجمال الطبيعي الذي لم يصنع في مختبرات التجميل بمساحيقه وابتكاراته: "شوف الزين منين ينوض من نعاسو قبل ما يغسل وجهو ويمشط راسو".
والجمال الأنثوي تأشيرة لفيض بهائي وبعد أخلاقي: "الزين يحشم على زينو ما الخايب غير إلا هداه الله"، "زِينْ الْمْرَا فِصْبْيَاهَا وْزِينْ العَاتْقْ فَحْيْاهَا".
ويجري في فضاء مغربي آخر تصنيع التأنيث والتدخل في تكويناته الطبيعية من أجل إعادة صياغتها وفق شروط الجمال المعتمدة ثقافيا: "خَلِّيكْ رْوِشْقَة تْبْقَايْ عْوِيشْقَة".
ويعتمد النصح في هيئة تحذير من رجل لآخر فتنته الأنثى من ضرورة مراعاة التحولات الجمالية التي تصادف المرأة في أوضاع معينة: "ياللي يعجبك فالنسا الزين والباس دير فبالك الحبال والنفاس"، والجمال لا يمنح صاحبته قدرا من التوافق الاجتماعي: "الزين زين وردة والسعد سعد قردة".
والثقافة الذكورية تدخل جمال المرأة في معادلة رياضية، ثقافة عقل في مقابل ثقافة جسد: "زين الراجل فعقلوا وعقل المرا فزينها"، وهو جمال موروث: "الزين فبناتنا سلالة من العمة الخالة"، بينما المقاييس الجمالية العضوية فيها اختلاف: "الشعر فالكنبوش والرجل فالحركوش لا زين إلا زين الخنشوش"/"الزين الفاخر، الشفايف والمناخر".
ولم يفت المبدع الشعبي المراهنة على لون بشرة المرأة المبتغاة: "إلا بغاتك البيضا لا تبغيها (الصفرا) لا تخسر مال بوك وجدك عليها، بحال البياض إلا طاح في العين يعميها، إلا بغاتك الحمرا بغيها اخسر مال بوك وجدك عليها، بحال العسل إلا طاح على الجرحة كيبريها، إلا بغاتك الكحلا لا تبغيها، لا تخسر مال بوك وجدك عليها، بحال الغراب إلا طاح على الخيمة كا يخليها".
وافتتان الرجل بالجمال الأنثوي يمنحه بعدا دينيا يفسر به ولهه: "الزين حبو ربي"، وهو جمال مطارد من طرف الآخر: "الزين هو الزين كثرو همومو، الزين بحال الفريسه الطيور عليها يحوموا". ولا يخلو المثل المغربي من السخرية من المرأة الذميمة التي تبغي جمالها من خلال وسائط تزيدها ذمامة: "لالة زينه وزادها نور الحمام"/"لالة مليحة وزادتها الترويحة". والمرأة التي لا يمنحها جمالها صفة الجلوس على عرش الجميلات فالأولى بها أن توجه إشعاعها الجمالي لخدمة بيتها: "اللي ما قدرات تكون نجمة فالسما تكون شمعة فالدار"، ويفضل المغربي المرأة التي تفتقر إلى معطيات جمالية راقية حين تؤسس له سبل الراحة النفسية: "خنيفيسة وتونس خير من غزالة وتوهس"، في حين نجد جمالا أنثويا لا يوازي مسؤولياتها البيتية: "التّحْزِيمَ، تْحْزِيمَ وْالطّيَابْ مْشْيّطْ دِيمَا"، والمرأة حين ينخر الزمن في تضاريسها الجسدية يغادرها الجمال في صمت، تحاصرها شعيرات الشيب فتهرب منه في تشبيه أبدعته الذات الشعبية: "المرا كتهرب من الشيب بحال النعجة من الذيب".
المرأة والزواج بين الصورة والصورة المضادة:
أولى المثل الشعبي موضوع الزواج أهمية تتراوح ملامحها على نسق الصورة والصورة المضادة، تتراوح بين السلبي والإيجابي، نماذج حاضرة في الذاكرة الشعبية كأنها وليدة الآني، تتوجها الفتاة الصغيرة السن التي تتحول إلى مبتغى كل راغب في الزواج: "اللي يتزوج المرا الصغيرة كيحوز الخير والدخيرة". ومقاييس مبعدة عن قاموس الزواج الشعبي تجسدها المرأة الفارعة الطول: "لا تزوج المرا الطويلة تحيرك في الكسوة والتسرويلة"، والمرأة الممعنة في كبريائها سرعان ما يتصيدها الندم: "خطبوها تعززات خلاوها ندمات"، كما تتغير تصرفاتها بين وضعها كامرأة-زوجة أو امرأة أرملة: "إلا تزوجوا تعوجوا وإلا تهجلوا تحوجوا".
والمرأة في المثل الشعبي لا تؤثت مصيرها كذات مستقرة إلا في حالة الزواج: "ديور البنات فالحين خلات"/ "دار البنات خالية". يفسر هذين المثالين الباحث الفرنسي مشيل كيتور Michel Kitour في كتابه: Dictionnaire Bilingue de proverbes marocains.
درج تقليد في العائلات المغربية على بقاء الابن وعروسه مع أهله بعد الزواج بينما تغادر الفتاة بيت أبيها بمجرد زواجها، يقابل هذين المثلين مثل فرنسي "ما خلقت الفتاة إلا لعمارة بيت غريب".
والهروب من الأرملة والزواج بها أمر مستبعد رغم جمالها: "ما تاخد الهجالة واخ يكون خدها مشموم أنت تنفق وتجيب وهي تقول الله يرحم المرحوم".
والعروس غالبا ما تجد من يمتدح جمالها من المقربين لها:
"شكون شكرك العروسة مي وخالتي والحزارة جارتي".
وللزواج في الثقافة الشعبية شروط ينبغي توفرها أولها:
النية: "الزواج بالنية والحرث بالنية"
شرط المال: "بفلوسك بنت السلطان عروسك"
شرط الحسب والنسب: "اللي ما تزوج بخدودها تزوج بجدودها"/"إلا ركبت ركب الدم الكبير يطلعك ولو تكون فقاع البير".
شرط إتقان الأعمال المنزلية: "إلا بغيتي تخطب بنتها دخل تشوف بيتها"، والصورة المضادة لهذا المثل "اللي خانها دراعها كتقول مسحورة".
شرط الاختيار المناسب للزوجة: "طاح الحك ولقا غطاه"
الاختيار من شبيه المختار: "كل فولة خامجة كيجيب ليها الله فروج عور". يتناص المثلين مع المثل العربي "وافق شن طبقة" والصورة المعاكسة للاختيار غير الموفق: "عام وهو يختار ودا بنت المختار".
شرط العلم: "خود البنات العالمات والخير العاصفات"
شرط صغر السن: تطالعنا الصورة المعاكسة: "صيحة طارت فالسما، العروسة كبر من العكوزة".
شرط أخلاقي: "الخفيفة ما تكون منها لا عروسة لا نفيسة"
شرط الصبر: "الحرة إلا صبرات دارها عمرات"، "اللي شفتيها بسعدها، عرفها كتكمل من عندها".
شرط عدم إثقال المرأة بالأعباء المنزلية: "قَالُّو كْتْبْ بنتي ما تطحنش قالُّو كتب ما عندها ما تطحن"، يضرب هذا المثل في الاشتراط على الزوج الفقير.
شرط إعالة الزوجة من طرف أبيها: "عطيني بنتك واعطيني عولتها كْمْحْ".
ويكشف المثل الشعبي عن الرغبة في الانتصار للزواج من المغربية: "كَيّلْ زرع بلادك واخ يكون شعير". لم تنفلت الفتاة التي غادرها قطار الزواج- العانس من المخيلة الشعبية لذاكرة المثل حين يبتسم لها الأمل الناعس: "الله ينجيك من المشتاق إلا ذاق ومن البايرة إلا ضربت الصداق"/العاتق إلا بارت على سعدها دارت".
وقد جال المثل المغربي في خبايا بعض الطقوس الحضارية للمجتمع المغربي يتمثل في جهاز العروسة أو ما يسمى "بالشوار"، وهو عبارة عن مجموعة هدايا من حلي وفضة وأثاث منزلي وملابس فاخرة. إلا أنه قد يخرج عن الذوق العام فينم عن ذوق هش رغم رفعة المكانة التي يحتلها أب العروسة الذي يساهم إلى جانب العريس في تجهيز العروس: "شوار بنت القايد كله مخاد".
ولا تفارق السخرية المثل المغربي الذي أبدعته الذاكرة الجماعية، إذ نجد الكثير من الأمثالالتي صيغت لتضرب في طلب المستحيل من المرأة: "خداها بفرنك، وبغاها تولد لو القايد"/"خداها بالدين وقال العروسة منحوسة"، والزواج في العرف الشعبي هَمٌّ محمل بمسؤوليات شتى.. هو والموت هم لا بد منه: "الزواج والموت هَمّ لا يفوت"، والأرملة من المحبذات للزواج بحكم التجربة أو التجارب السابقة: "الهجالة ماتخاف من الزواج". ويتناص مع المثل البرتغالي: "الأرملة الغنية تبكي بعين وتضحك بالأخرى".
المرأة بين قدسية الأمومة ولعنة الحماة:
- الأم والجسد المقدس:
شكل جسد المرأة بخصوصيته البيولوجية وإمكاناته الطبيعية عبر تاريخ الحضارات الإنسانية والميثولوجيا القديمة والتصورات الدينية حقلا لتناقضات بارزة. فهو مجال للقوة الميتافيزيقية، للسلطة المرتبطة بسر الأمومة والخصوبة وحمل الحياة الجديدة وهو أيضا مجال للشر، مصدر للسحر والضرر، حامل للحياة والموت في آن واحد، فكرتان تبرزان حول جسد المرأة: "الجسد/العورة مجال الشهوة ومصدر الفتنة، باب الشيطان ورمز الدنس والقذارة من جهة، ومن جهة ثانية الجسد/المقدس رمز الطهارة والخير والزهد وعلاقة العطاء والخصوبة، فكرتان تمتدان قديما في حضارتنا وثقافتنا وعقليتنا وتستمران بمرجعية واقعية تمارس في سلوكاتنا وعلاقة الآخر بجسدنا"[5]كما تقول الباحثة نجاة الرازي. والمرأة، هذا الجسد الخصوبة رمز الخير والعطاء، تصوير يزيل عن المرأة مفاهيم التحقير والإهانة ويحيطها بالتقديس والاحترام لما يحيط بجسدها من أسرار ووظائف يعجز الرجل عن آدائها"[6].
في حين ترى الباحثة عائشة بلعربي في كتاب المرأة والسلطة أن المرأة لا تكمل إلا بالأمومة، ووضعيتها النهائية هي وضعية أم لابن أو عدة أبناء أو حماة، الشيء الذي يكسبها سلطة لكي تفرض نفسها وتتخلص من كل مراقبة ذكورية. إن الارتباط بالابن والتبعية للأم يخترقان حياة الرجل والمرأة بأكملها[7]. وتأتينا صورة الأم بوصفها أرقى أوضاع المرأة وأقدسها.
"اللي عندو مو لا ترفد همو"
"الِّلي أمُّ فِي الْكْشِّينَة ما يموت بالْغْبِينَة"
ترتفع قدسية الأم ليفضلها المبدع الشعبي عن آداء الطقوس التعبدية: "مرا ولادة خير من مرا عبادة"/"مشات أيام الخديدات وجات أيام لوليدات". والصورة المضادة حين يعقم رحمها: تقول الباحثة الرازي نجاة إن احترام الجسد/الأم يكشف عن وجه آخر مناقض يعكس اضطهاد النساء، يتعلق بوضعية المرأة العاقر، فالعقم كلمة قاسية لغويا، تعين الجذب والقحالة وتقابل المرأة بالأرض، فالأرض العاقر لا تمنح خيرا، والمرأة العاقر امرأة ناقصة يمكن أن تترك وتنبذ لأنها لم تمنح ذرية تخلد اسم الأب وتقهر خوفه من الموت الذي يضع نهاية لوجوده الفيزيقي[8]، يقول المثل الشعبي "مرا بلا ولاد بحال الخيمة بلا وتاد"، والأم تفك شفرات العاجز: "الزيزون ما يفهمو غير مو"، وهي مثال ناطق للتضحية الدائمة: "السعرة كتاكل العصا على ولادها"/"الحمارة طاحت فالبير على خيال ولادها "قالت الحمارة ملي ولدت ما كلت علفي وافي ولا شربت ماي صافي"/ "ما تهرست الكرمة غير على الكرموس".
وتستأنف الأم مساعدة أبنائها رغم طلاقها من خلال مساعدة زوجها الجديد: "إلا غلا الزرع راجل مي يكيلو"، الأم مفتاح أسرار لابنتها، تتحول علاقتهما إلى صداقة: "البنت شريكة أمها". ويتناص هذا المثل مع المثل الفرنسي: "الأخذ والعطاء يجعل من الأم وابنتها صديقتان حميمتان"، كما تتشبع بخصال أمها: "قْلْبْ الْكْدْرَة عْلَى فُمْهَا تْطْلَعْ الْبْنْتْ لامْهَا".
تقول الباحثة الرازي نجاة في كتاب الجسد الأنثوي: "في مجتمعنا المعاصر يلاحظ أن مرحلة الأمومة تكسب المرأة نوعا من الاهتمام والاحترام تفتقده في مراحل أخرى من حياتها، إنه وجه للتقديس والاحترام يصل إلى حد منح المرأة سلطة داخل الأسرة تمارسها ضد النساء من جنسها الحماة/زوجة الابن. إن الحماة في ثقافتا الاجتماعية تملك سلطة قائمة على علاقة الأمومة التي تربطها بالزوج/الابن فتتحول إلى امرأة ضد امرأة تملك سلطة قد تخولها تطليق الزوجة أو منافستها في مقدار العناية التي يمكن أن تنالها ماديا وعاطفيا"[9]. "الغيرة كترد العكوزة صغيرة" هي سلطة تعبر عن تشابك وتعقد العلاقة بين المرأتين، تصبح فيها الأمومة سلطة رمزية لممارسة الاضطهاد من طرف المرأة على المرأة. "العكوزة ياوجه الدلو هي حارة وولدها حلو"/ "العكوزة بالتسبيح نصراني صحيح" يتناص مع مثل إسباني "الحماة سكر مر". هذه النظرة العدائية تزيد في ترسيخها الذاكرة الشعبية للمثل: "حلفت العروسة ما تحب العكوزة حتى تبياض الفحمة"، فهي تحشر نفسها في كل شيء: "العكوزة إلا ما هضراتش تهز راسها". كما أن المثل الشعبي يصنع الصورة المضادة المطهمة بنفحات السخرية على لسان زوجة الابن: "حماتي لالاتي وبنتها مولاتي"/"أنا وحماتي كنبكيو من عين واحدة".
- المرأة لسان الثرثرة.
شكلت ثرثرة المرأة انعطافا حساسا في الثقافة الشعبية، يقول المثل المغربي: "المرا كتربط من لسانها والبغلة من بنانها" يقابله مثل سويدي "سيف المرأة في فمها" وكذا المثل الإنجليزي "لسان المرأة آخر عضو يموت فيها". فاللسان استعمل كآلة مسخرة من طرف المرأة لنفث سموم الغيبة والنميمة والكلام المفرغ من العقل والتعقل. وأمثلة المرأة-الثرثرة تكررت على امتداد جغرافيا العالم البشري، حيث رصد ميشال مراد كتابه روائع الأمثال العالمية إعادة صياغته في أكثر من عشرين لغة، فيغيب لسان المرأة كآلة إبداع وفصاحة وإبراز فنون القول، بل يتحول ويستعمل كسلاح غوائي: "الحزارة غلبت السحارة واللي بلسانا داتو كلو" يقابله مثل إنجليزي "كلام المرأة الجميل دليل قوي عليها". يفسر ميشيل كيتور المثل المغربي باعتباره تكريما صريحا لكلام المرأة الغوائي. والمرأة بذلك تؤسس أنوثتها من موقع مصادرة الصمت.. تتكلم كي تعبر عن انتصار للغتها في مقابل لغة الرجل الذي يتهمها بالتخلي عن اللغة لأنها من إنتاجه. فالرجل العربي لا ينتظر منها الكلام لأن جسدها المؤنث عنوان إفصاح ولسانها الناطق، ولذا يكون المثل الإنجليزي تعبيرا واضح المعالم عن ذلك: "الفتيات لكي تنظر إليهن وليس لتسمعهن". والمسألة تبدأ كما أشار الغذامي في إغراء الجسد المؤنث بترك اللغة وتزهيدها فيها وإظهار ذلك بوصفه علامة على الجمال والحسن ومصدرا للإغراء[10]: "الهدرا مع النّسَا وَنَّاسَ تبعدك من الربح وتقربك من الخسارة". إن هذا المثل يكشف عن تصور ذهني متعمق في الثقافة الشعبية وهي أن الأنوثة خرساء ويحسن في جاذبيتها ويزيد في جمالها أن تدع اللغة للرجل. فالأنوثة مجرد جسد يستقبل اللغة ويخضع لها من جهة ويرسل علامات صامتة مشفرة لكي يتولى الرجل فك الشفرات وتفسير العلامات ودائما يكون الترميز والألغاز والغموض شرطا في لغة المرأة[11] "العكوزة إلا ما هضراتش كتهز راسها". ولكن لماذا يجري نفي الجسد المؤنث من اللغة مع أن التاريخ يحفل بنماذج نسائية أسست ازدهارا للغة شعرا ونثرا..؟ يعود ذلك إلى المعتقد اللصيق بالمرأة إلى كونها مشحونة بالإحساس العاطفي الذي يصرفها عن استعمال العقل.. فجسدها كي يثير انتباه الآخر ليست في حاجة إلى ذكاء خارق أو عقل ثاقب بل يتوقف الأمر على مدى جمالية الجسد المؤنث. وهذا تصور غائر في القدم والعالمية، نقرأ لدى الدنمركيين: "النساء فساتين طويلة وأفكار قصيرة"، يقابله المثل المغربي: "شاور مرتك وخالف ريها". فالمعطى الثقافي الشعبي إذن، يؤسس مثلا لامرأة بجسد خيالي مفعم بالأنوثة الخرساء.
المرأة عنوان الشر بجميع تشكيلاته:
تجاور المرأة في المثل الشعبي المغربي الحيلة والخديعة والمكر، وكل شر لاحق بالخلق سببه امرأة: "كل بلية سببها ولية"، "المرا تلذع وتصيح"، فهي شر أخلاقي: "علات موكا ونزلات فوق عود راشي كل العيالات فاسدات غير اللي ما قدرات على شي"، "خرجوا رجليها الشواري"، كيدها وضغينتها فاقت الرجل: "كيد النسا كيد بن كيد وكيد الرجال غير كيد"/"إذا حلفوا فيك النسا بات تاعس وإلا حلفوا فيك الرجال بات ناعس"
ـ شر البلادة: "مراتي بسلامتها سيقات عاد عزفات"/"حمقة وكالو لها زغرتي".
ـ مشاورتها واستبعاد الأخذ برأيها: "المرا شاورها وما دير بريها".
ـ الابنة الشرعية للشيطان بأصناف شره: "المرا زريعة إبليس"، "الشاعودات إبليس الراعيات في الدخالي يتلاقاو ساكتين ويفكوه في الغلالي".
المرأة بين عقاب الطلاق. التعدد والعقاب البدني:
يركز المثل الشعبي على العقاب البدني بل ويساوي بين المرأة والعبد في ضرورة التأديب المبرمج له من طرف الثقافة الذكورية: "العبد والمرا إلا ماكلاو العصا من الحد لحد ما يقولو بحالنا حد". والضرب لا يقف عند حدود العصا كآلة متسلطة على جسد الأنثى الخانعة بل تشكل المرأة الثانية ضربة قاصمة لظهر المرأة الأولى: "ضرب المرا بالمرا يا ولد المرا"/"ضرب النسا بالنسا ماشي بالعصا"، وبورقة الطلاق تكون الضربة المبرحة: "ضرب المرا بالبرا يا ولد المرا". والمرأة حين لا تحقق المعادلة الحسابية في بيت زوجها وحفاظا منها على استقراره تلجأ إلى طرق تمارس من خلالها حق استرجاعه بشتى الوسائل كالسحر مثلا، إلا أنها في حالات نفسية لا تسعفها إلى طلب المعونة إلا من فاقدتها: "مشات عند المطلقة تسحر ليها"، يتناص مع المثل العربي "فاقد الشيء لا يعطيه".
والمرأة إن لم تنكس على أبواب الطلاق فإن التعدد الذي يطمح إليه الزوج لأسباب يتلبس بها تجعل المرأة الأولى في حالة هواجس لا متناهية: "الله على مصيبتي جاتني شريكتي": والرجل بدوره يعاني من اهتزازات نفسية يشبهه المبدع الشعبي بصاحب الطاحونة والساقية الدائمتي الدوران: "مول الطاحونة والسانية والمرا الثانية حتى ليلة ما يباتها هانية".
خلاصات:
يتبدى الحضور الممتد للمرأة في المثل الشعبي في بعدين: البعد الأنثوي والبعد المقدس. وتفرعت عنهما مجموعة من الأبعاد: فهي الأنثى المطهمة برموز منحتها امتلاك قيم جمالية خارقة أساسها الاختلاف والتميز البارزين كمعطى تعريفي لشخصية المرأة ولا تكتمل كجسد فاتن إلا بالعلم والمعرفة، هذا الجسد محمل بأسلحة رمزية معها يتحول من قيمة إغراء جنسية وشهوة إلى قيمة ثقافية مناط أبحاث، فهي دال رمزي.. معجم دلالي تعامل معه المبدع الشعبي للمثل فأسس كتابه المتنقل المتواتر عبر الزمن الحضاري. وتعاملت الأمثال مع المرأة كبعد مقدس تجانست فيها قيم التبجيل والسلطة الضاغطة أحيانا، والأمثال ذاكرة للشعب المغربي، ذاكرة للرجل وللمرأة ينبش فيها ليخرج نظرته بكل وضوح في المرأة، فجاءت محملة بخبايا وتصورات. كما تطلعنا الأمثال التي سيقت عن المرأة عن بعد حضاري في تخريج مجموعة من الطقوس التي يختص بها الشعب المغربي كالشروط التي تتوفر في المرأة المبتغاة كحلم قابل للتحقق عبر الزواج.. ومثل المرأة كتاب يتناص مع أمثال عالمية، فهل هذا يعني أن مبدع المثل المغربي يمتلك الثقافة العالمة التي تسكن الآخر.. أم أن التداول خلق آلية التناص؟ كما ظهرت المرأة على نسق الصورة والصورة المضادة بين السلب والإيجاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق