"يكفيك أن تجلس ساعة بصحبة شباب العهد القديم.. لتتعلم الحكمة!".. الجملة السابقة تعلمتها من حكيم أيضاً.. والسر يكمن في عدد الأمثال والحكم التي يمكن أن تسمعها في جلسة كهذه.. مقاطع محبوكة، حكيمة، عميقة ومرات مضحكة تستحثك ل الوقوف عندها ومعها بما يكفي لإيفاء حقها!

فلكل قطعة من الأرض أمثالها التي تؤمن بها كمسّلمة.. عبارات كبيرة بكلمات جداً قليلة تكفي لنصيحة.. وتكفي للحضور كشاهد يملأ الكلام ويسد.. تبعث الطمأنينة في نفوس.. وتشعل الهواجس في أخرى.. ولكن تظل ملح الكلام وما يتبقى منه.. يقول إبراهيم النظام في وصف المثل: "يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكتابة وهو نهاية البلاغة".

وبما أن الجلسة كانت تقريباً "نجدية" فكل ما سيرد جاء بصوت عجائزي متداخل ولكن يمكن برغم هذا تمييزه.. سأذكر ما أذكر من ذاك الوقت الذي قضيته معه(ن)..

يأتي الحديث حول قضايا سياسية وتنطق بحماستك أن العرب سيتفقون على كلمة.

ثم تصلك ابتسامة مصحوبة ب "إذا حجت البقر على قرونها".. وبعدها تترك كل دفاعاتك جانباً لتتأمل جملة صيغة بواسطة عقليه عبقرية في فن التعجيز.. وسيطرح سؤال: عزيزي القارئ: كم عدد المستحيلات في هذه الجملة ؟!

بقر بقرون يحج منقلباً!

والخلاصة أنه حتى لو ضحى البقر بفعل المعجزات فلن يتفق العرب!.. وهذا المثل أحد الأساليب المهمة في تلقين الإحباط... (على الأقل حسب فهمي أنا)!

ثم ينتقل الحديث لضبط الوقت وإيفاء المواعيد.. وتعقب كلماتك بتأمين ونصيحة بذهب "إذا واعدته جمّال واعد عشرة" كان جمالاً في زمن القائل قد يكون له ظروف مع جملة تستدعي التأخير، وفي وقتنا الجمالون كثر ولكن بلا عذر.. ونصيحة مني واعد عشرين ونسبة النجاح سترتفع!

تجيء الأمثال خلاصة لموقف.. أو معنى فهمه حكيم من الدنيا أو أسطورة اختصرت في ثلاث كلمات ثم شاعت على الألسن.. لتبقى بما تبقّى.. ولتعيش مادام في الحياة نفس.. أسأل (أم سعد) عن أهمية المثل وتأثيره في حياتنا فتجيب: "الأمثال تجي مع الحكي.. ما نخطط لها.. يمكن لأننا تعودنا عليها.. فصارت تقريباً أساس حكينا.. ونقولها عشان نأكد كلامنا".

تستمر الجلسة بمواضيع أخرى ويأتي الدور على الحظ وأنه لا يأتي دوماً كما تشتهي ويكفيك أن تشرح كل هذا باختصار في قولك: "إما حبى وإما برك" كانوا يتأملون أن يمشي "الصبي" وفي كل مرة يخيب الأمل حتى صار مثلا!

وبالرغم من أن العيب صفة الجملة الناقصة.. إلا أنه يجوز للمثل كما للشاعر مالا يجوز لغيره.. فنقص ك "أسكت وإلا أنسدحت" والتي سمعتها أيضاً من خلال هذه الجلسة، له حضور في منتصف (السالفة) بحيث يكفي لفهمها.. عندما بحثت فيه وجدت قصته والتي قيل فيها: أن رجلاً فقيراً رأي في منامه وكأن حظوظ الناس في ميدان سباق منها مايسرع كبرق ومنها الأقل سرعة.. المصيبة تكمن في أنه رأى حظه يزحف زحفاً وعندما أستحثه ليلحق بغيره ألتفت له حظه وقال "أسكت وإلا أنسدحت" بمعنى "أرضى بقريدك لا يجيك أقرد منه"!

الجميل أنه يمكنك أن تدرس شعباً من خلال أمثاله.. ستفهمه وتعرف قوانينه ومعتقداته وعاداته بواسطة شفرات سهله ك مثل.. كثير من الدراسات والرسائل كان موضوعها دراسة أمثال شعب ما أو مقارنة بين مجتمعين من خلال أمثالها!

والمؤلفات في القديم و الحديث ، لا حصر لها منها: (المستقصى في أمثال العرب) للزمخشري، (نشر المثل السائر وطي الفلك الدائر) للسخاوي،(الحكم والأمثال) للعسكري، ومن المؤلفات التي جاءت على أمثالنا:(الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب) للأستاذ عبدالكريم الجهيمان، (الأمثال الشعبية في نجد) و(مأثورات شعبية) للأستاذ محمد العبودي.

يبقى سؤال: ماذا يعني المثل ؟!.. يكفينا الفيلسوف أبو النصر الفارابي عناء التعبير بقوله: (المثل ما ترضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه.. حتى ابتذلوه فيما بينهم وقنعوا به في السراء والضراء واستدروا به الممتنع من الدرر ووصلوا به إلى المطالب القصية وتواصوا به عند الكربة.. وهو من أبلغ الحكمة لأن الناس لا تجتمع على ناقص أو مقصر في الجودة أو غير بالغ المدى في النفاسة).. (لمياء) علقت: "يقال إن الأمثال هي (العدوى الأكثر انتشارا).. وكثيراً ما نسمع مثلاً هنا ومرادفاً له تماماً في بلد آخر.. مما يؤكد أن الإنسان أينما وُجد له ذات الهم والنوازع".

وبما أنني لا زلت وسط الجلسة كانت (السواليف) تجيء وتروح ويجيء الدور للأرزاق والله يقبض ويبسط وبيده مقادير كل شيء.. تصلك حكمة مطمئنه كهذه "كل ساقط وله لاقط" قانون مسلّم به أخشى أن يدعوني للتواكل بما أنني حتماً لن أرتطم بالأرض!

ولرفع الروح المعنوية وتثبيت الإيمان بأن الإنسان قادر على فعل أي شيء إن كان فعلاً يريده ولتشجيع أهل البطالة لترك التخصص جانباً والرضى بما يأتي بما أن "من له عيون وراس سوى ما سووا الناس"!

أحد الأقوال الجميله التي عثرت عليها لأبن عبد ربه يقول فيها: (الأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحليّ المعاني.. تخيرتها العرب وقدمتها العجم ونطق بها في كل زمان على كل لسان.. فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة.. لم يسرِ شيء مسيرها ولا عمّ عمومها.. حتى قيل أسير من مثل).. (ريم) أحد الحضور تضيف لي: "أعجبني جداً الاهتمام الشافي بالكيف دون الكم في مثلٍ عميق ك" لا يغرك رخصه ترمي نصه "ولا أدري هل سبق خالد الفيصل ب" يامدور الهين ترى الكايد أحلى "أم أن المثل ألهمه وكان مرشداً"!

ثم تبدأ التخمينات لتوقع مايحدث أو سيحدث في قصة لجارة ما.. ويأتي صوت عجائزي مبحوح "اللي في القدر يطلعه الملاس" على وزن "ياخبر النهارده بفلوس بكره يبقى ببلاش" كل هذا لتصل أنك ستفهم عندما يصبح الوقت متاحاً للفهم.. فلا تستعجل لأن العجلة تقود للظن.. والظن لا يغني من الحق شيئاً!

وبما أن أحاديث المجالس في العادة تطرق كل باب.. يصل الحديث عن الأحلام والمنامات ويفزع القوم للتلميح بتفسيرها.. وكل يأتي بدلوه.. وأخيراً تصل للتفسير الحكيم الذي يجيبك ب "حلوم أهل نجد حديث قلوبها".. وبناء على النصيحة حدّث قلبك بالخير لتصبح على خير!.