المروءة ميزان الرجولة ورجحان العقل ، وشرط من شروط عدالة الرجل
أكَّد الشيخ الدكتور إبراهيم بن عبد الله الدويشالأمين العام لمركز رؤية للدراسات الاجتماعية والداعية الإسلامي المعروف على أن الحفاظ على المروءة وآدابها، واجتناب خوارمها ونواقضها مطلب شرعي، وبها يكمل الإنسان ، وذكر قول القائل:
وَإِذَا الفَتَى جَمَعَ المروءةَ والتُّقَى * وَحَوَى مَعَ الأَدَبِ الحياءَ فَقَدْ كَمُلْ
وقال فضيلة الشيخ الدويش أن خوارم المروءة تتباين درجاتها، وتختلف مراتبها، فمنها ما يصل إلى درجة المحرم، ومنها ما يصل إلى درجة المكروه، ولكن أكثرها من باب خلاف الأفضل والأولى .
وبيَّن بُعدًا آخر يجب أن يراعى عند تناول هذا الموضوع، وهو اختلاف المروءة من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن مصر إلى مصر تبعًا للأعراف والعادات، فالمروءة لها ارتباط وثيق ومباشر بأعراف الناس وعوائدهم، وتتغير بتغيرها . . . وتبعًا لتباين درجات خوارم المروءة واختلاف مراتبها ، واختلافها تبعًا للزمان والمكان والأعراف والتقاليد فقد تعددت تعريفات المروءة،
وأفاضت المراجع العلمية وتوسعت في بيان معناها نظرًا لخصوبة معانيها، وسعة دلالتها، وتشعب معطياتها، وسعة مفاهيمها، لاشتمالها على كل معنى مليح، وأدب جميل، وخلق عظيم. ولذا قيل في تعريفها أقوال كثيرة جداً، حيث جاء في تعريفها بأنها: "آدَابٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَحْمِل مُرَاعَاتُهَا الإِْنْسَانَ عَلَى الْوُقُوفِ عِنْدَ مُحَاسِنِ الأَْخْلاَقِ وَجَمِيل الْعَادَات".وقال الماورديّ:المروءة مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها،حتّى لا يظهر منها قبيح عن قصد،ولا يتوجّه إليها ذمّ باستحقاق. وما من شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا، ويبعث على شرف الممات والمحيا، إلا وهو داخل تحت المروءة. ومن أجمع التعاريف في المرؤة: قول بعضهم: المروءة هي الإنسانيّة، وقال الآخر: هي الرّجوليّة الكاملة،ولعل هذا يُذكرنا بقول العامة لدينا: "المرجلة صعبة"، ومن تأمل حال البعض من شبابنا اليوم في تصرفاته ولباسه وشكله علم حقيقة هذا القول:
إِني لَتُطربُني الخِلالُ كريمةً ... طربَ الغريبِ بأوبةٍ وتلاقِ
ويَهُزُّني ذكْرُ المروءةِ والندى ... بين الشمائلِ هزةَ المشتاقِ
فإِذا رُزقتَ خَليقةً محمودةً ... فقد اصطفاكَ مقسِّمُ الأرزاقِ
والناسُ هذا حظُّه مالٌ وذا ... علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاقِ
وأضافَ الشيخ الدويش في خطبة الجمعة بجامع الملك عبد العزيز بالرس أن علماء الحديث ذكروا: البعد عن خوارم المروءة كشرط من شروط العدالة الخمسة في الرجل، فحتى يكون الرجل عدلاً فلا بد أن تتوافر فيه شروط خمسة: أن يكون مسلما بالغاً عاقلاً خالياً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، وابن القيم يقول:"حقيقة المروءة: اتّصاف النّفس بصفات الإنسان الّتي فارق بها الحيوان البهيم، والشّيطان الرّجيم، فإنّ في النّفس ثلاثة دواع متجاذبة: داع يدعوها إلى الاتّصاف بأخلاق الشّيطان، من الكبر والحسد والعلوّ والبغي، والشّرّ والأذى، والفساد والغشّ. وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان، وهو داعي الشّهوة، وداع يدعوها إلى أخلاق الْمَلَكِ، من الإحسان والنّصح والبرّ والطّاعة والعلم. والمروءة بُغْضُ الدّاعيَيْنِ الأوَّلَيْنِ، وإجابة الدّاعي الثّالث، ولهذا قيل في حدّ المروءة: إنّها غلبة العقل للشّهوة، ونقل عن الفقهاء قولهم: حدّ المروءة: استعمال ما يُجَمِّلُ العبدَ ويَزِينُهُ، وتركُ ما يدَنِّسُهُ ويَشِينُهُ، سواء تعلّق ذلك به وحده أو تعدّاه إلى غيره". ثم اعلموا عباد الله! أن مروءة كلّ شيء بحسبه: فمروءة اللّسان: حلاوته وطيبه ولينه. ومروءة الْخُلُقِ: سعته وبسطه للحبيب والبغيض. ومروءة المال: الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلا وعرفًا وشرعًا. ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه. ومروءة الإحسان والبذل: تعجيله وتيسيره، وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه.
وقد أصَّل الدكتور الدويش لموضوع المروءة تأصيلاً شرعيًا من الكتاب والسنة، فقال: من الكتابنورد ما قيل لسفيان بن عيينة رحمه الله: قد استنبطت من القرآن كل شيء فأين المروءة في القرآن؟ قال: " في قول الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ففيه المروءة وحسن الآداب ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله: {خُذِ الْعَفْوَ} صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين؛ وفي قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام؛ وفي قوله:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الحض على التخلق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة وغير ذلك من الأفعال الحميدة والأخلاق الرشيدة".
وأما المروءة في السنة، فقد قال نبي الأمة:((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا)). بل اقتصر جوهر رسالته في إتمام مكارم الأخلاق التي بها نحقق المروءة ونكسب بها معالي الآداب، فقالr: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)).
ِإن المكارمَ ليسَ يُدرِكُهَا امْرؤٌ ... وَرِثَ المكارمَ عن أبٍ فأضاعَهَا
أمـرتْهُ نفـسٌ بالدناءةِ والخَنا ... ونهتْهُ عن طلبِ العُلا فَأَطَاعَهَا
واستعرض الشيخ الدويش المظاهر التي عليها الناس اليوم والتي تخدش صفة المروءة فقال: كم من الناس ذكراً كان أو أنثى استجاب لنفسه الأمارة، بل تعدى ذلك للمجاهرة بمعصيته وقلة حيائه جهاراً نهاراً، أمام الناس دون حياء ولا خوف، بل تجده بكل صفاقة وبرود يُحطم القيم ومعاني الرجولة وعادات نبيلة في أهله وعشيرته إما بتصرف رزيل، أو بقول صفيق أو بلباس غريب، أو بشكل ممجوج، يفعل ذلك لا يُبالي بمن حوله أياً كان ومهما كان، وكلنا بدأ أخيراً يشاهد ويسمع ويقرأ عن هؤلاء وجرأتهم وصفاقتهم وقلة حيائهم، تشبه وتقليد وربما تخنث وتكسر ورعونة، فأين هذا من أخلاق العرب وصفات الرجولة، وأدب الإسلام، يقول الإمام الشافعي: "والله لو كان الماء البارد يُنقص من مروءتي لشربته حاراً".
وذكر الدكتور الدويش أن خوارم المروءة كثيرة جدًّا، وتشمل كل فعل قبيح شرعًا وعقلاً وعرفًا،ومنها:
* جعل النفس مسخرة للناس، بحيث يُضحك به في كلامه أو شكله ولباسه، وقد نهىrعن لبس لباس الشهرة، كما في الحديث((مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبًا مِثْلَهُ، ثُمَّ تُلَهَّبُ فِيهِ النَّارُ)).
* إتباع هوى النفس، والانجرار وراء حظوظها، يقول ابن القيم: "إن أغزر الناس مروءةً أشدهم مخالفة لهواه". وقال أيضًا:" ومن لا دين له يُؤْثِرُ ما يهواه وإن أداه إلى هلاكه في الآخرة لضعف ناهي الدين، ومن لا مروءة له يُؤْثِرُ ما يهواه وإن ثلم مروءته أو عدمها لضعف ناهي المروءة".
* المبالغة في الضحك والمزاح، يقول الأحنف بن قيس: "كثرة الضحك تُذهب الهيبة، ومداومة المزاح تُذهب المروءة..".
* الحسد، فقد قيل: إياك والحسد! فإنه يُذهب الدين، ويضعف اليقين، ويُذهب المروءة.
* المراء والجدال، قال أبو الفتح البستي: المراء يهدم المروءة.
* التجشؤ بصوت مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلاً. ففي الحديث: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: تَجَشَّأَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ r فَقَالَ: ((كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
* التصريح بأقوال لم ينطق بها الشرع إلا كنايةكالعورات المغلظة وأسمائها إلا لضرورة، ملحة.
* التسرع والعجلة في الأمور، فصاحب المروءة يكون دومًا ذا أناةٍ وتؤدةٍ؛ فلا يبدو في حركاته اضطراب أو عجلة أو رعونة، ولا يعجل في مشيه أو كلماته فيخطف حروفها خطفًا.
* عدم السيطرة على النفس عند هيجان الغضب أو دهشة الفرح، فأهل المروءات يعدُّون الإفراط في الفرح أو الغضب في المناسبات من خوارم المروءة:
ولَسْتُ بِمفْراحٍ إِذا الدَّهْرُ سَرَّنِي ... ولا جازِعٍ مِن صَرْفِهِ المُتَقَلِّبِ
ولستُ بِباغِي الشَّرِّ والشَّرُّ تارِكِي.. ولكنْ مَتى أُحْمَلْ على الشَّرِّ أَرْكَبِ
ومن خوارم المروءة أيضًا:
* النفاق والتملق، واهتزاز الشخصية وتقلبها.
* الثرثرة وكثرة الكلام ودوام المقاطعة لمحدثه، وعدم الإصغاء إليه، فصاحب المروءة تجده مصغيًا لمحدثه حتى ولو كان يعرفه؛
من لي بإِنسانٍ إِذا أغضْبتُهُ ... وَجهِلْتُ كان الحلمُ ردَّ جوابهِ
وتراه يُصغي للحديثِ بسمعهِ ... وبقلبهِ ولعله أَدْرى بهِ
وقبل نهاية الخطبة بيَّن فضيلته أن المهم هو: الحفاظ على المروءة وآدابها، واجتناب خوارمها ونواقضها، فالإسلام يأمرنا بحفظ المروءة والحرص عليها، واجتناب خوارمها، بل إنه يجعلها محكًّا يزن به العقول، ويقيس به الرجال.
وأوصى كل واحد منا بأن يسأل نفسه بعد هذه الإشارات والكلمات في رحاب المروءة وبيان شيء من معانيها، وذكر بعض خوارمها، هل وقر في نفوسنا أهمية هذه القيمة الأخلاقية، والمكرمة الاجتماعية التي نالت الحظوة الكبرى لدى الوجهاء والكبراء من أمراء وعلماء، ووزراء وحكماء، وأدباء وشعراء، فهي مدار فخرهم ومنادماتهم، بل هي ميزان الرجولة والأخلاق عندهم، إنها المروءة تحفظ لأهل المروءات مكانتهم وشهامتهم، إنها المروءة مفخرة ومرجلة:
ولا بدَّ من شكوى لذي مروءة يُواسيك أو يُسليك أو يتوجَّعُ
واختتم الشيخ خطبته بالتذكير بأهمية تربية الأبناء منذ الصغر على مثل هذه المعاني، المروءة والرجولة والكرم والشهامة، ليعتادوا عليها ويُنّشَّؤوا بظلالها:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق