ونبقى مع السيل وفرحة قدومه، فهو نعمة الكل يستبشر بها، ويحمد الله عليها، فالماء مصدر الحياة قد لا يدرك أهميته أقوام سكنوا على جوانب الأنهار وبين الينابيع والعيون الجارية والذين يرى منهم اليوم إسراف لا حدود له.

نستكمل القول حول ذلك، وانعكاس الفرحة على الناس بمجرد دخول موسم المطر.

وبما أن القرى نشأت على ضفاف أودية جافة لا تجري إلا وقت المطر، فإن منظر السيل وهو يمر بجانب القرية يدعو إلى الاستمتاع بمنظره، لا يمل منه ناظر، ولا يشبع من الفرجة عليه أحد، فأهل القرية أول ما يسمعون بجريان واديهم فإنهم يتباشرون ويستبشرون ويتناقلون الخبر ويعلمون بعضهم بعضا، ويسارعون إلى الاصطفاف على جوانبه حتى ولو جرى في الليل، والأطفال يخوضون فيه لا يهتمون بما يصيبهم من البرد والبلل لأجسامهم وثيابهم ولا أحد من أهلهم يمنعهم وإن كانوا يوصونهم بتوخي الحذر والاهتمام، بل ويشاركونهم الخوض في الماء والتعبير عن الفرحة التي في داخلهم، فتعبيرهم عن الفرحة يغلب كل شيء، ولعل جريان الوادي يعني للجميع أن كمية المطر والسيل كبيرة، فما تجري الأودية إلا من مطر غزير، وبهذا يقرنون بين خبر السيل وجريان الوادي، فإن قيل بأن الوادي الفلاني وليكن الرئيس في بلدتهم، قد جرى فإنه يكفي لتلقي الخبر المفرح بجودة المطر وغزارة مائه.

السيول كونت ثقافة شعبية ظهرت بالأمثال بالوصف والتحذير

لولا المطر ماشفت سيل المخيلة ولا سال دعب يزهرن به نواوير

يقول حميدان الشويعر عن بلدته القصب واصفاً المطر وأهميته للزراعة إذا جرى الوادي جرياناً أكيداً وبقوة تكفي:

يا هبيل العرب لا تكد القصب

 لين سيله يعقب الرقيبية 

والرقيبية هي موضع جنوب البلدة القديمة، لا يصلها السيل إلا بعد أن يروي كل المزارع الشمالية، بما فيها مزرعة الشويعر نفسه، وهو في البيت يعني نفسه ويوصيها بأن الكد والعمل في الزراعة يحتاج لخطة مائية.

ومع كل الفرحة والسرور والبشارات لا يخلو الأمر من قلق، فالسيل كما يحمل أخباراً مفرحة ومصدر سعادة وارتواء البساتين واخضرار العشب وإنبات الزرع وملء الآبار وتوفير الماء لحياة السكان فترة طويلة تجعلهم مطمئنين من غائلة الجفاف الذي يكون له ضرره في أيام ما بعد فصل الأمطار، إلا أن للمطر أضراره ومآسيه الكثيرة والتي يدركونها تماما وقد جربوها وعاشوا همها وحزنها ومآسيها، والتي تتمثل في هدم المنازل وإغراق المزارع وانقطاع الآبار، أي هدمها ودفنها وتخريب جدرانها، وجرف الأودية لما أمامها من ماشية وبيوت طينية أو حجرية أو بيوت شعر أقيمت قريبة منها.

فالسيل تذكر أضراره الكثيرة في التاريخ بما يصورها المؤرخون في كتبهم ومدوناتهم ومخطوطاتهم، على حقيقتها الموجعة التي وإن مر عليها مئات السنين إلا أن شدتها لا تنسى.

وعلى هذا فالسيل فرحة وسعادة، وأيضا مهابة وخطر، ورزق ونعمة، يعطي الكثير ويغير في البلدان الكثير أيضا، واكتسب الناس من التعامل معه في الصحراء دروساً واستقوا خبرات جراء التعامل مع مفاجآته، فالأمطار في الجزيرة العربية غير منتظمة وتهطل فجائية، وقد تصيب مكاناً وتنحدر على مكان آخر بعيدا عنه بعشرات الكيلومترات، فيفاجئ أناساً ما تحروا بسيل ولا رأوا سحاباً فوق ديارهم، فيجتاح ما أمامه، ويغرق من بقي في مجراه.

وقد احتل المطر والسيل وما ينتج عنه من حياة وخيرات وربيع واخضرار الأرض جزءاً من ذاكرة السكان حتى إن الشتاء كله له عندهم وضع مختلف عن بقية فصول السنة، فالكل يهتم بتقسيمات الفصل ودخول هذا الوقت وخروج الآخر، وبداية الموسم وظهوره، بشكل غير معتاد مما يجعل الوضع مختلف، وهذه بلا شك جراء تعلق الناس بمصدر حياتهم وهو المطر والسيل، فاكتسب الغالبية ثقافة بيئية حول ذلك كله، اكتسبوه ضمنا ودون أن تملى عليهم، لكن ما دام المطر والسيل هماً ومدار حديث المجتمع لذا صار أيضا هم الصغير والكبير وثقافة تشربها الجيل تلقائياً.

وهذا الاهتمام تأثرت به ثقافتهم الشعبية، فلم يغفل أجدادنا ذكر السيل من الأمثال الشعبية التي تناولوها بوصف أو تحذير أو غيره فقالوا:

[نصف السيل زبد] فأخذوا من السيل ما يشبهون به بعض حالاتهم وعلاقاتهم، ويضرب للشيء يقبل عليك فيهولك ويخيفك ثم يتبين أنه لا يحمل حقيقة تخيف بل هو زبد من السيل، ومن ذلك تصرفات بعض الناس التي ليس وراءها ما يدعو للاهتمام بها، فالقول الكثير والتهديدات أحيانا لا تحمل مضموناً صادقاً.

وأيضا قولهم [يدربيه السيل ويقول ديمه] ويضرب المثل لمن هو وقاع في مشكلة كبيرة ولا يحس بأبعادها.

والديمة هي المطر الخفيف المستمر، وهو لا يؤثر على المسير ولا يعيق النشاط ولا ينتج منه جريان ماء غزير في الأودية، لكن عندما يكون السيل قويا جارفاً فإنه يجتاح ما أمامه، لهذا فالديمة تختلف عن المطر القوي، ومن يقول عند سؤاله عن المطر والسيل بأنه ديمة بينما الماء يقلبه وقد اجتاحه وجرفه من قوته، ليس لديه تقدير للأمور.

وأيضا قولهم المثل الشعبي [بطى السيل من كبره] أو من كثره، وهذا يضرب للمرسل أو المسافر، يتأخر عن الوصول، بسبب مهمات أو منقولات معه مهمة وثقيلة.

وأيضا يقولون [مثل السيل يغدر في النهار أو في الليل] والسيل عادة يجري من بعيد فيغدر بمن ينام في الوادي معتمدا على أن الوقت ليس وقت مطر أو أن السماء صحو لا سحاب فيها، فيداهمه السيل القادم من مكان بعيد فيهلك وهذا النوع من السيل يسمى (جذيب) ويعنون أنه مجذوب من مكان آخر، ولهذا نهينا عن المبيت في بطون الأودية لأنها خطرة.

وأيضا المثل الشعبي [ما تسد السيل بعباتك] فالعباءة لا يمكنها أن تقف سداً مقابل السيل المندفع ولا يمكن أن تمنعه، ويضرب المثل لمن يقابل الأمر المهم والصعب بشيء ضعيف من القول أو العمل أو الحجج الواهية.

وأيضا المثل (سيل ما يبلك لا يهمك) وهو بلا شك ينطبق على كل شيء سواء الماء أو الطعام أو المال أو الأصدقاء الذين لا ينفعون في الشدة، فالذي لا تجد منه ما تنتفع به لا داعي لأن تهتم به.

وهكذا تتوالى الأمثال الشعبية حول السيل والمطر وكلها تصوره على أنه مصدر له أهميته من حيث القوة والاستمرار في مجراه وأنه لا يقاوم.

وقد تعامل أجدادنا مع السيل تعاملا يدرأ خطره بقدر المستطاع.

وفي الختام نأتي على ظاهرة برزت أخيراً وتكاثرت واحتلت مكانة إعلامية لها أثرها، وهي التقاط الصور لمشاهد السيل في جريانه ومساقطه، وللمطر وقت هطوله، والسدود والمستنقعات، وهي بلا شك تعبير صامت من خلال الصور الفنية التي تنقل الحدث من موقعه ولحظته.

مما جعل التعبير بواسطتها يطغى على أي تعبير من شاعر يصور لنا بالكلمات والقصائد ما شاهده كما هو معمول به سابقاً حيث لا يوجد تصوير، ومع مرور الوقت بدأ الشاعر يقل إنتاجه حول تصوير مشاهد العشب والسحاب أو الوادي والماء يجري فيه واضمحلت القصائد حول المطر أمام المشاهد المصورة التي تنقل الواقع بجماله الحقيقي وليس فيها خيال شاعر قد يعطي الصورة المغايرة متأثرا بأحاسيسه ومشاعره.

وبقيت ذكريات الشعراء مع السيل والمطر في المخيلة للتشبيه.

يقول شاعر في وصف مشاعره:

السيل يبقى له على القاع مجرى

 ويبقى لك التذكار لوكنت فارقت 

يقول الشاعر سويلم الحربي:

لولا المطر ماشفت سيل المخيله

ولا سال دعب يزهرن به نواوير

دام المطر والسيل ربك كفيله

يسوقها يم الفياض المداهير