منذ ان عرفت الزراعة، وفي كافة الحقب والعصور التي تلتها، تكيف الفلاح في بلادنا مع تتابع الفصول الأربعة، وجعل مواسمه الزراعية تتناغم معها، فيزرع في الشتاء من المحاصيل ما يتحمل البرد، ويكتفي باقل ساعات إضاءة الشمس، ثم يزرع في الصيف نباتات النهار الطويل، وفي الربيع يزرع ما ارتوى من المطر.
اما السنة الزراعية، فهي عبارة عن المناسبات الزراعية، المرتبطة بالمناخ وأشهر السنة وتشمل الحرث الغرس والابذار والحصاد وقطف الفواكه، وارتبط ذلك بأشهر معينة، مثل الحصاد في ايار، وقطف العنب في اب (في اب اقطف العنب ولا تهاب)، وشهر أيلول في رزنامة الفلاح، أيلول دباغ الزيتون وبدور في الزيت في الزيتون.
تبدآ السنة الفلاحية بموسم الحرث والبذار، وتصل ذروتها بموسم الحصاد.
فقد تراكم الكثير من الخبرات الزراعية والحياتية والبيئية عند الفلاح في بلادنا على مر الأجيال، حيث تحددت لكل شهر برنامج عمله اليومي، ضبطه توقيته، ومتطلبات كل بداية ونهاية موسم زراعي. وتشكل مع تراكم خبرات هذا المجتمع الزراعي لدى الفلاح عادات وتقاليد وأمثال وقيم، والتي جرى خزنها في الذاكرة الجمعية، وتوارثها كقوانين ونمط لتنظيم حياتهِ وأعماله.
وسأعرض موسم الحصاد في بلادنا بما ارتبط به من أدوات، مصطلحات غناء وأمثال شعبية بدافع الا ننسى ونعمق تجذرنا في تراب الوطن.
موسم الحصاد: اعتاد الفلاح قبل النضوج الكامل لسنابل الحنطة ان يباشر بقطف السنابل اافريك، ليضممها في زغد، ويقوم بشعوطتها لتحضير الفريكة. كان موسم الحصاد، يبدأ في شهر أيار مع نضوج القمح والشعير، وعبروا عن ذلك بقولهم "اجا أيار ابو السنابل والغمار"، و "يا منجلي اجا أيار لا تمانع".
تطلب الحصاد ضرورة تساقط الندى ليلا بكميات كبيرة (صاقوعة الندى) لان الرطوبة ستمنع تساقط بذور السبل عند جمعها، وتخفف وخز الأشواك، وسموم الحر. ويوم الحصاد كان يبدأ دغشة، ويدوم حتى ضب الرمس. وكانت اداة الحصاد الاساسية المنجل، ويضع الحصاد ما يحصده تحت إبطه (الشملة)، وتعاون الجميع من رجال ونساء وأولاد على جمع الشملات، وتكديسها في مكان يسمى الغم.، والاغمار كانت تجمع لتكون حلة،وبعدها يتم نقلها الى البيدر(الجرن). وبعد الانتهاء من عملية الحصاد، يذهب الفقراء الى الحقول لجمع (تلقيط) ماتبقى من سنابل، ولتصبح بعدها الحقول المحصودة مرتعا للحيوانات البيتية، ويسمح للرعيان بإحضار قطعان البقر والغنم الى الحقول المحصودة، لتنال نصيبها مما تخلف من حبوب ونباتات مفيدة لتلك الحيوانات، والتي هي بالمقابل توفر بفضلاتها (روثها) سمادا للأرض.
وبعدها كانت تبدأ عملية (الرجادة (رفع او شيل المحصول الى البيدر يحزم الشيّالة سنابل القمح، في حِمْل، ونقلها على الحيوانات الى البيدر. لتكدس هناك في كومة دائرية كبيرة بعد تنظيف البيدر،وأطلقوا عليها اسم حِلْة (حابون ).
والبيدر (الجرينة، وهذا مصدر اسم حي الجرينة) هو المكان المخصص لجمع المحاصيل الزراعية من أجل درسها ونزع الحبوب منها قبل تخزينها. وعند اختيار موقع البيادر يفترض أن تكون بشكل عام في أماكن مفتوحة للهواء، من أجل تسهيل أعمال التذرية. كما يجب الا تكون بعيدة عن مساكن القرية ليتيسّر للفلاح سرعة الوصول إلى البيت لقضاء الحاجات، ولتسهيل عملية احضار الاكل والماء.
ومع الانتهاء من عملية النقل الى البيدر، يبدأ الفلاح مع أولاده وقطاريزه بنشل السنابل بالشواعيب من الحلة وفرشها بدائرة على ارض البيدر(الجرن)، وسميت الطرحة، لتدوسها اولا بإقدامها الحيوانات (جمال،حمير ثيران الخ) لتحضيرها لدرسها بالنورج (النورج- لوح خشبي مصنوع من خشب البلوط يحتوي على مجموعة من الحصى ملصقة تحته)، والذي كان يديره فتى يافع لمنع انحراف الدابة التي تجر النورس عن مسارها، بينما كان شخص اخر يقوم بتقليب الطرحة باستمرار لتقليل لزوجتها لتسهيل عملية فصل البذور.
وتنتهي عملية الدراسة عندما تصبح الطرحة خليطاً من الحبوب والتبن والقصل (عيدان القمح والسبل الثخينة)، مخلوطة ببقايا الحصى والتراب والاشواك، التي تكون قد علقت بها من ارض البيدر، وهنا تأتي عملية التذرية لفصل الحبوب عن هذه الشوائب والعوالق. وكان التحضير للتذرية يبدأ بتكويم الدريس في الطرف الغربي، من البيدر لضمان تساقط الحبوب والتبن والقصل على ارض البيدر.
وكانت اعمال التذرية تجري بطريقة بدائية عن طريق استغلال هبوب قوة واتجاه الرياح، حيث يختار الفلاح ساعات اليوم الذي تهبّ فيه الرياح اللطيفة، وتكون رياح غربية او شمالية شرقية، فيقف الفلاح جنوبا في طرف ألكومة مستخدما مذراة خفيفة من الخشب.
وبعد انتهاء التذرية تكون قد تشكلت اربعة اكوام على ارض البيدر، من الغرب الى الشّرق، وهي: عورمة الحب (قمح) وعرفت بالصليبية، ويليها كومة القصل (عقد القش والسنابل)، وبعدها كومة التِبن، فكومة الدُق -تبن ناعم جدا (الموص).
بعد الانتهاء من أعمال التذرية، تبدأ النساء بعملية فصل جديدة لحبوب القمح عما تبقى من التبن والقش والقصل والأوساخ والتراب والصرار والزوان واية شوائب اخرى، باستخدام الكربال والمسرد والغربال. (هي انواع مناخل اختلفت في حجم ثقوبها لتناسب استعمالاتها). وبعدها جرت عملية تنظيف البيدر بالكواشة، ومكنسة الِبلان الشوكية.
ارتبطت بالحصاد ومشتقاته بشكل مباشر أو غير مباشر أمثال شعبية ذات معان ودلالات مختلفة في تراثنا الزراعي. بما ان بداية الحصاد في أيار فقالوا "في ايار احمل منجلك وغار". وكما ذكرت ان يوم الحصاد، تتطلب البدء قبل بزوغ الشمس ويستمر حتى ضب الرمس، اَي يوم الحصاد كان طويلا فقالوا في ذلك "أطول النهارات نهار الحصاد وليلالي البداد" (المعصرجي)، "احصد بدري قبل ما تجي الشوبة".
وبما ان التذرية ارتبطت بحركة الهواء، فكان الفلاح بذكائه الفطري يعي تغير حركة الهواء مع حلول شهر اب، فقالوا في ذلك "ان اجا اب وما ذريت كانك بالهوا انغريت".
واطلقوا على بذور الحنطة الجيدة قمح صليبي والشبه فارغة ردايد، ففضلوا في مثلهم كل ما هو من قريتهم بقولهم "ردايدنا ولا القمح الصليبي".
وكان المحصول يتخلله بذورا غير صالحة للأكل ويجب تنقيتها مثل ألزوان،الحسك الدحيرجة، وهذا المثل يؤكد ارتباطهم الوثيق بقريتهم ففضلو الزواج الداخلي بقولهم "من زوان بلادك حط على خدادك". ومن امثالهم لتشجيع اللقاط كمصدر معيشة للفقراء "كل ساقطة الها لاقطة. هي لقوطة بس مش قاروطه".
وارتبطت بالحصاد أمثال شعبية تعبر عن تعب ومعاناة هذا العمل الشاق، كقولهم "اجا الحصيد وإجا التعب والتنكيد"، " يَا ايّام السبل شو خليت للغزل" و"يا مرا ويا مُرِار الحصيدة قطعت أيدي".
واكدت امثالهم التنبؤ بإمكانيات هطول مطر غزير في أيار "لا تأمّن للوديان لو انه في زهر الرمان"، "يا سعد وَيَا سعد، حصيدي ورعد".
وهناك من الأمثال الشعبية ارتبطت مدلولاتها ومضامينها
بأدوات الحصاد لتنقل لنا صفات سلبية وايجابية واماني واطماع، مثل قولهم "واوي بلع منجل عند خرا بتسمع عوا". وفلان غربال سارود، و "بخاف اهزك يا غربالي، ليسقط كل حبيب وغالي" وقولهم "فلان زي لوح الدراس".
أفرز الاقتصاد الزراعي البدائي اخلاقيات اجتماعية فرضت ضرورة التعاون المتبادل والعمل الجماعي وبشكل خاص في مواسم حرث وزرع الارض وحصاد المحاصيل، مثل فزعة الحصادين لمعونة جار لا يستطيع حصاد حقله لأسباب تتعلق بظروف خاصة به أعاقت حصاده.
ان أدوات العمل البدائية وشظف العيش أدى الى الحاجة للتعاون المتبادل كضرورة اقتصادية واجتماعية، لضمان استمرارية العيش والبقاء وعبروا عن ذلك "الي بيشوفني بعين بشوفو بتنتين"، و"كل شي قرضه ودين حتى دموع العين واللط على الخدين". كما حثوا وشجعوا على ضرورة التعاون "كثرة الايادي في الحصيدة بركة.. وأهل المعونة رافعين المونة، عونة وإلا راعونة".
وارتبط الحصاد بأغان فولكلورية وقد ُغنيت هذه الأغاني منذ أزمان سحيقة القدم عندما انتقل الإنسان من نظام المشاعية البدائية الى طور الزراعة. فبدأ الإنسان يغني خلال عمله، ويرسل أغانيه لتقطع الأمكنة والأزمنة، يرسلها عبر حقوله ومزارعه لتكون رسالة له ولغيره من الحاصدين. وهدفت للترويح عن النفس، بتخفيف تفكيرها بالكد والتعب والمعاناة، ولتشجيع وبعث الهمم والنشاط، ووسيلة للاتصال والتعارف والمعونة. حملت أغنية الحصاد الازمان الاولى للإنسان، مدى تعبه وشقائه في تلك العهود. فهي التعبير الواقعي لوجدانه وذاكرته الشخصية والجمعية. انها اغان تطورت من أغنية شخصية الى أغنية شعبية فولكلورية وأصبحت ملكاً للشعب كله، ملكاً لكل من يغنيها أيام الحصاد الصيفية القائظة.
واهم مزاياها التعبير عن الصراع بين الأغنياء والفقراء من الفلاحين والقطاريز. وقد عكست وكشفت بالأساس علاقات الاستغلال الجشع بين الاقطاعي والأجير، فكثير مما تحمله أغاني الحصاد يؤكد على هذا الصراع ومكوناته. وهذه الأغاني هي كشف للألم والحلم الإنساني خلال الحياة، اَي أنها مانيفستو (بيان) عميق للشعور عن المأساة وعن الحلم بالسعادة ولو ساعة من الزمن، فكم من أغنية حفظت لنا ذلك الصراع، وكانت قوة دافعة للتصدي وقهر المستغلين.
هبهبهو يا هبهبوا وجه الحلة ما أطيبو
المعلم عرَش عرَش من كثر الاكل كرَشً
يا معلم حلنا ولا بنهرب كلنا
يا معلم حلنا وعلى الحلة حلنا
ومن زخيخات العرق حتى منا إنْدَلَق
منجلي يا أبو رزة
وشو جابك من غزة
جابني حب البنات
والخدود الناعمات
وكان موسم الحصاد ينتهي بجورعة في يَوْمَه الأخير، وهي وليمة الحصاد، حيث كان يتلاقى معا في وليمة احتفالية مجموعة الاقارب والاصدقاء والجيران، وكل المشاركين في اعمال الحصاد. ووظيفة واهمية الجورعة بالأساس لم تنحصربالوجبة (جود من الموجود) إنما الاحتفاء بانتهاء الحصاد وشقائه، فقالوا فيه "جورعة وتكميلة وما عدنا نميل ولا ميلة". برأيي عكست الجورعة تأكيد التعاون والتكاتف والاتحاد والمودة والاحترام المتبادل وحسن الجيرة كقيم تضمن الصمود والبقاء امام تحديات الظروف المعيشية القاسية والمضنية.
إضافة تعقيب