ترجع علاقة الإنسان بالطيور إلي عصوره البدائية ، ضمن علاقته ببقية الكائنات الحية المحيطة به، الضار منها والنافع ، الأليف منها والمفترس وكذا علاقته ببقية الظواهر الطبيعية المؤثرة في حياته ، كالمطر والريح والرعد والبرق ، والقمر والشمس ، وغير ذلك .. كانت هذه العلاقة تتبلور أحياناً في شكل ديني – عبادات الشمس والقمر والنجوم والحيوان والطير – وفي بعض الأحيان كانت تأخذ شكل المعتقد الشعبي المرتبط بالخير والشر أو كلاهما . ويعتبر الطائر الذي نعرفه باسم " الغراب " من أكثر الطيور التي حظيت بالإهتمام في التراث الشعبي الإنساني عامة إذ لا يكاد تراث أمة من الأمم يخلو من الإشارة إليه . وتجمع هذه الإشارات علي أن الغراب طائر مشئوم وأنه نذير بالموت والخراب ودليل علي الفراق والتنائي .. والعرب – كغيرهم من الأمم – تتشائم بالغراب ، ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والإغتراب والغريب ، وتشيع في لغتهم عبارة " غراب البين " ويقول صاحب " المجالسة " : سُمّي غراب البين لأنه بان عن نوح – عليه السلام – لما وجهه لينظر إلي الماء فذهب ولم يرجع ولذلك تشاءموا به .. ويقول الجاحظ أن غراب البين نوعان : أحدهما غراب صغير معروف باللؤم والضعف ، وأما الآخر فإنه ينزل في دور الناس ويقع علي مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها وبانوا منها .. فهو لذلك يرتبط في الوجدان الجمعي الشعبي بالفراق والخراب . أما ارتباطه بالموت فيرجع إلي بدء الخليقة وعند أول حادث قتل بين البشر عندما قتل قابيل أخاه هابيل لما تقبل الله قربان قابيل ولم يتقبل من هابيل فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله .. ويقول القرطبي .. " فجهل كيف يقتله ، فجاء إبليس بطائر – أو بحيوان غيره – فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل ، ولما قتله ندم فقعد يبكي عند راسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه ففعل القاتل بأخيه كذلك.." وهناك تفسير آخر لما فعله الغراب ، وهو" أنه بحث في الأرض علي طعامه ليخفيه إلي وقت الحاجة إليه – لأنه من عادة الغراب أن يفعل ذلك – فتنبه قابيل بذلك إلي مواراة أخيه " .. وفي سورة المائدة ( آية 30- 31 ) يقول الله تعالي " فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين * فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتيَ أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين * وهكذا ارتبط الغراب بالموت والقتل منذ بعثه وعلي امتداد تاريخه حيث لاحظ العرب اجتماع الغربان حول جثث القتلي بعد المعارك .. ويرد ذكر الغراب مرة ثانية في القرآن الكريم في قصة الطوفان عندما أرسله النبي نوح – عليه السلام – لينظر ما إذا كان الماء قد انحسر عن الأرض أم لا ، فوجد جيفة طافية علي وجه الماء فاشتغل بها ولم يأته بالخبر فدعا عليه فعقلت رجلاه , وأصبح يخاف من الناس .. وفي قصص الطوفان المتعددة في الحضارات المختلفة يذكر فيها الغراب أيضاً .. ففي الحضارة البابلية نجد في ملحمة جلجاميش ذكر الغراب علي لسان " أوتنابشتيم " جد جلجاميش وهو يحكي له عما حدث بعد انحسار المياه عن الأرض " ثم أطلقت غراباً في المرة الثالثة – بعد الحمامة والسنونو – وأبصر الغراب أن المياه قد انحسرت عن الأرض فغاص في الطين وأخذ ينبش بمنقاره ويأكل ، ونفق ولم يعد " . ومن الطريف أن بعض الأساطير القديمة تقول أن الغراب كان في وقت ما أبيض اللون ثم تحول إلي اللون الأسود ، وتفسير ذلك في التراث الشعبي المصري أن الغراب لما عاد إلي نوح – عليه السلام – وأخبره بأنه لم يجد اليابسة غضب نوح – عليه السلام – فدعا عليه بأن يسود لونه .. ويبدو أن الغراب كان يشغل الوجدان الشعبي كثيراً فمضي يفسر الكثير من حركاته وسكناته تفسيرات تختلف بإختلاف البيئات والثقافات . . فعلي سبيل المثال لاحظ العرب أن الغراب يمشي بطريقة غريبة لا تشبه مشية كل ذي قدمين وقد لخص الشاعر العربي رؤيته في هذه الأبيات .. إن الغراب وكـــان يمشي مشية فيما مضي من سالف الأجيال حسد القطاة ورام يمشي مشيها فأصــابه ضرب من العقـــــال فأضـــلّ مشيته وأخطأ مشيها فلذاك سموه أبا المرقــــــــــال وليست " أبا المرقال " هي كنيته الوحيدة ، فالدميري يذكر له أكثر من كنية منها ، أبو حاتم ، وأبو حذر ، وأبو الشؤم ، وأبو الجراح ، كما يقال عنه " ابن الأبرص " ،" وابن بريح " . وليس أدلّ علي أهمية هذا الطائر في التراث الشعبي العربي من تلك العجائب التي تروي عنه ، فقد ورد في السيرة وفي قصة حفر زمزم أن عبد المطلب رأي قائلاً يقول له : احفر طيبة .. قال : وما طيبة .. ؟ قال : زمزم ، قال : وما علامتها .. ؟ قال : بين الفرث والدم عند نقرة الغراب الأعصم ، والغراب الأعصم عزيز الوجود .. وقالت العرب .. " أعز من الغراب الأعصم .. " ، وقال – صلي الله عليه وسلم – " مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم في مائة غراب .. " – رواه الطبراني – وفي رواية أبي شيبة : قيل يا رسول الله ، وما الغراب الأعصم ؟ قال : الذي إحدي رجليه بيضاء .. ومن العجائب التي تروي عنه أيضاً ، نقل القزويني عن أبي حامد الأندلسي أن علي البحر الأسود من ناحية الأندلس كنيسة من الصخر منقورة في الجبل عليها قبة عظيمة وعلي القبة غراب لا يبرح وفي مقابل القبة مسجد يزوره الناس يقولون أن الدعاء فيه مستجاب ، وقد شُرط علي القسيسين ضيافة من يزور المسجد من المسلمين فإذا قدم زائر أدخل الغراب رأسه في روزنة علي تلك القبة وصاح صيحة وإذا قدم اثنان صاح صيحتين .. وهكذا كلما وصل زوار صاح علي عددهم فتخرج الرهبان بطعام يكفي الزائرين ، وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب ويزعم القساوسة أنهم ما زالوا يرون غراباً علي تلك القبة ولا يدرون من أين يأكل أو يشرب.. ومن عجيب أمره أيضاً أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ فراخه يحمل الذكر والأنثي في أرجلهما حجارة ويتحلقان في الجو ويطرحان الحجارة عليه ، يريدان بذلك دفعه .. * الغراب والطب الشعبي : للغراب في المعتقد الشعبي خواص كثيرة في الطب والعلاج ، سواء كان علاجاً سحرياً أو طبياً فيعتقد أن من يكتحل بكبده تذهب عبه الغشاوة ، وفي ريف مصر يعتقد أن أكل كبده يعالج عيوب النطق والتعثر في الكلام عند الصغار ، وإذا سقي إنسان من دمه مع نبيذ ، أبغض النبيذ حتي لا يرجع إلي شربه أبداً ، ودمه المجفف علاج للبواسير . . وعن خصائصه السحرية يعتقد أنه إذا علق منقاره علي إنسان حُفظ من العين ، وإذا علق طحاله علي إنسان هيّج الشبق ، ومرارته إذا طلي بها إنسان مسحور ، ذهب عنه السحر. وحتي صوته يبدو أنه شغل الوجدان الشعبي حيث يعتقد أنه إذا صاح مرتين فهو نذير شر ، وإذا صاح ثلاث مرات فهو خير ، علي قدر عدد حروف كلمتي خير وشر .. *الغراب في الأمثال الشعبية : كثيرة هي الأمثال المرتبطة بالغراب وكلها بالطبع تلخص نظرة الوجدان الشعبي له ومعتقداته حوله ، كما تأخذ – بالضرورة – من صفاته وخصائصه ، فقالوا ، " أبصر من غراب " للدلالة علي قوة بصره ، فيقال أنه يبصر تحت الأرض بمقدار منقاره . وقالوا .. "أخيل من غراب " ، و " أبكر من غراب " ، فهو معروف بأنه أشد الطير بكوراً ، و "أحذر من غراب " ومنها جاءت كنيته أبو حذر . وقالوا .." أبطأ من غراب نوح " .. ومن التعبيرات الشائعة عنه أن من أراد أن يؤكد أنه لن يقدم علي فعل مرة ثانية أبداً يقول : " لا أفعل كذا حتي يشيب الغراب " فالمعروف أنه لا يشيب أبداً .. وعن الأرض المثمرة يقولون : " أرض لا يطير غرابها .. وقالوا : " الغراب أعرف بالتمر " وذلك لأن الغراب لا يأخذ إلا الأجود منه ولذا يقال .. " وجد تمرة الغراب " إذا وجد شيئا ًنفيساً . ومن المعروف أن الغراب يقع علي الجيف ، ويقول الشاعر :
ومن يكن الغراب له دليلاً يمر به علي جيــف الكلاب ومن الأمثال الشعبية التي ترتبط بالغراب وتؤكد نظرة الناس له المثل الذي يقول : " قالوا للغراب : ليه بتسرق الصابون ؟ ، قال : الأذيه طبع فيّه " ، هذا مع يقينهم بانه لا يأكل الصابون .. ويقولون عن العصفور الصغير : " خارج من الحريقه ، قابله الغراب زغطه " أي نجا من الحريق فابتلعه الغراب .. ويقولون مؤكدين أنه نذير شؤم .. " يا فرحة ما تمت .. خدها الغراب وطار .. " ، ويقولون ساخرين لمن يعود بما لا يستحق الذكر " ياما جاب الغراب لآمه " ربما للتعبير عن قلة وفاء الغراب لأنه يسفد مع الأنثي ولا يعود إليها أبداً .
·الغراب في الأحلام : يفسر لحم كل طير وريشه وعظمه علي أنه مال لمن حواه في المنام .. أما عن الغراب نفسه فإن من رأي غراباً يحدثه فإنه يرزق ولداً خبيثاً ، وقال" ابن سيرين " .. بل يغتم غماً شديداً ثم يفرج عنه .. ومن رأي كأنه يأكل لحم غراب فإنه يأخذ مالاً من قبل اللصوص . وهكذا .. يلاحق الغراب الإنسان حتي في منامه ..
تصفح ردود المواضيع في الأرشيف متوفر للأعضاء المسجلين فقط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق