صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : حياة الحيوان الكبرى |
فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: " وهن شر غالب لمن غلب " . كنى عن فسادها وخيانتها بالذربة، وأصله ومن ذرب المعدة وهو فسادها. وقيل: أراد سلاطة لسانها وفساد منطقها مأخوذة من قولهم: ذرب لسانه، إذا كان حاد اللسان لا يبالي بما يقول، والعيص بالعين والصاد المهملتين أصل الشجر والمؤتشب الملتف وقوله لطت بالذنب، وهو بالطاء المهملة، أراد به أنها منعته بضعها من لطت الناقة بذنبها، إذا سدت فرجها به، إذا أرادها الفحل. وقيل: أراد توارت وأخفت شخصها عنه، كما تخفي الناقة فرجها بذنبها، وكان الأعشى المذكور شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم امرأته وما صنعت، وأنها عند رجل منهم يقال له مطرف بن بهصل، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مطرف: " انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه " . فأتاه بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه عليه، فقال لها: يا معاذة هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك وأنا دافعك إليه. فقالت: خذ لي العهد والميثاق وذمة النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يعاقبني فيما صنعت، فأخذ لها ذلك ودفعها مطرف إليه فأنشأ يقول:
لعمرك ما حبي معاذة بالذي ... يغيره الواشي ولا قدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها ... غواة رجال اذينا جونها بعدي
وقال الزمخشري في تفسيره قوله تعالى: " إن كيدكن عظيم " استعظم كيد النساء على كيد الشيطان، لأنه، وإن كان في الرجال كيد، إلا أن النساء ألطف كيدا، وأنفذ حيلة، ولهن في ذلك رفق وبذلك يغلبن الرجل. ومنه قوله تعالى: " ومن شر النفاثات في العقد " والنفاثات من بينهن اللاتي لهن ما ليس لغيرهن من البوائق. وعن بعض العلماء أنه قال: أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان، لأن الله تعالى يقول : " إن كيد الشيطان كان ضعيفاً " وقال في النساء: " إن كيدكن عظيم " وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة عمر بن أبي ربيعة، قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، إذ رأى امرأة تطوف بالبيت، فأعجبته فسأل عنها فإذا هي من البصرة، فكلمها مراراً، فلم تلتفت إليه وقالت: إليك عني فإنك في حرم الله في موضع عظيم الحرمة، فلما ألح عليها ومنعها من الطواف، أتت محرماً لها، وقالت له تعالى معي أرني المناسك فحضر معها فلما رآها عمر بن أبي ربيعة عدل عنها، فتمثلت بشعر الزبرقان بن بدر السعدي:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الضاري
فبلغ المنصور خبرهما، فقال: وددت أن لم تبق فتاة في خدرها إلا سمعته. وكانت ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكان الحسن البصري يقول، إذا جرى ذكر ولادته: أي حق رفع وأي باطل وضع، وغزا في البحر فأحرقوا السفينة فاحترق، وذلك في سنة ثلاث وثمانين.
وللأسد والذئب في الصبر على الجوع ما ليس لغيرهما من الحيوان، لكن الأسد شديد النهم حريص رغيب شره، وهو مع ذلك يحتمل أن يبقى أياماً لا يأكل شيئاً والذئب وإن كان أقفر منزلاً، وأقل خصباً وأكثر كداً، إذا لم يجد شيئاً اكتفى بالنسيم، فيقتات به وجوفه يذيب العظم المصمت، ولا يذيب نوى التمر، ولا يوجد الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب. ومتى التحم الذئب والذئبة، وهجم عليهما هاجم قتلهما كيف شاء، إلا أنهما لا يكادان يوجدان كذلك، لأنهما إذا أرادا السفاد توخيا موضعاً لا يطؤه الإنس، خوفاً على أنفسهما ويسفد مضطجعاً على الأرض، وهو موصوف بالانفراد والوحدة، وإذا أراد العدو فإنما هو الوثب والقفز، ولا يعود إلى فريسة شبع منها أبداً. ومن عجيب أمره أنه ينام بإحدى مقلتيه والأخرى يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم، فيفتحها وينام بالأخرى ليحترس باليقظى ويستريح بالنائمة قال حميد بن ثور في وصفه، في أبيات مشهورة منها:
ونمت كنوم الذئب في ذي حفيظة ... أكلت طعاماً دونه وهو جائع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع
وهو أكثر الحيوان عواء إذا كان مرسلاً فإذا أخذ وضرب بالعصي والسيوف حتى يتقطع أو
(1/365)
يهشم لم يسمع له صوت إلى أن يموت. وفيه من قوة حاسة الشم، أنه يدرك المشموم من فرسخ. وأكثر ما يتعرض للغنم في الصبح وإنما يتوقع فترة الكلب ونومه وكلاله، لأنه يظل طول ليله حارساً متيقظاً. ومن غريب أمره أنه إذا إجتمع جلده مع جلد شاة تمغط جلد الشاة، وأنه متى وطىء ورق العنصل مات من ساعته. والذئب إذا كده الجوع عوى فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض. فمن ولى منها وثب إليه الباقون وأكلوه، وإذا عرض للإنسان، وخاف العجز عنه، عوى عواء استغاثة فتسمعه الذئاب، فتقبل على الإنسان إقبالاً واحداً، وهم سواء في الحرص على أكله، فإن أدمى الإنسان واحداً منها، وثب الباقون على المدمى فمزقوه، وتركوا الإنسان. وقال بعض الشعراء يعاتب صديقاً له وكان قد أعان عليه في أمر نزل به:
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدم
روى البيهقي في الشعب، عن الأصمعي، قال: دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقع، فنظرت إليها فقالت: أتدري ما هذا. قلت: لا. قالت: جرو ذئب أخذناه وأدخلناه بيتنا، فلما كبر قتل شاتنا. وقد قلت في ذلك شعراً قلت لها: ما هو؟ فأنشدته:
بقرت شويهتي وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا ولد ربيب
غذيت بدرها وربيت فينا ... فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع فيها الأديب
وهو إذا خافه إنسان طمع فيه، وإذا طمع الإنسان فيه خافه، ويقطع العظم بلسانه ويبريه بري السيف، ولا يسمع له صوت، ويقال: عوى الذئب، كما يقال عوى الكلب قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
وقال آخر:
ليت شعري كيف الخلاص من النا ... س وقد أصبحوا ذئاب اعتداء
قلت لما بلاهم: صدق خبري ... رضي الله عن أبي الدرداء
أشار إلى قول أبي الدرداء: إياكم ومعاشرة الناس فإنهم ما ركبوا قلب امرىء إلا غيروه ولا جواد إلا عقروه، ولا بعيراً إلا أدبروه. وروى السهيلي، في الكلام على غزوة أحد، في حديث مسند، أنه قال: لما ولد عبد الله بن الزبير نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " هو هو ورب الكعبة " . فلما سمعت أمه أسماء ذلك أمسكت عن ارضاعه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " أرضيه ولو بماء عينيك كبش بين ذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو يقتلن دونه " . وروى ابن ماجه والبيهقي عن كعب بن مالك، وقال: حديث صحيح حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم، بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه وقد نص الله تعالى على ذم الحرص بقوله: " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة " ، وروى ابن عمي عن عمرو بن حنيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئباً، فقلت أذئب في الجنة؟ فقال: أكلت ابن شرطي " . قال ابن عباس: هذا وإنما أكل ابنه فلو أكله رفع في عليين. وقد رأيته كذلك في تاريخ نيسابور للحاكم في ترجمة شيخه علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي وهو حديث موضوع.
وروى الحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: بينما راع يرعى بالحرة، إذ عدا الذئب على شاة فحال الراعي بينه وبينها فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: يا عبد الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي! فقال الرجل: واعجبا ذئب يكلمني! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، فزوى الراعي شياهه إلى زاوية من زوايا المدينة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صدق والذي نفسي بيده " .
(1/366)
فائدة: قال ابن عبد البر وغيره: كلم الذئب من الصحابة ثلاثة: رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع وأهبان بن أوس الأسلمي رضي الله تعالى عنهم. قال: ولذلك تقول العرب: هو كذئب أهبان يتعجبون منه، وذلك أن أهبان بن أوس المذكور كان في غنم له فشد الذئب على شاة منها فصاح به أهبان فأقعى الذئب وقال: أتنزع مني رزقاً رزقنيه الله تعالى؟ فقال أهبان: ما سمعت ولا رأيت أعجب من هذا ذئب يتكلم، فقال الذئب: أتعجب من هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات وأومأ بيده إلى المدينة يحدث بما كان وبما يكون، ويدعو الناس إلى الله وإلى عبادته وهم لا يجيبونه، قال أهبان بن أوس: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة وأسلمت، فقال لي: " حدث به الناس " . قال عبد الله بن أبي داود السجستاني الحافظ فيقال لأهبان: مكلم الذئب ولأولاده أولاد مكلم الذئب، ومحمد بن الأشعث الخزاعي من ولده واتفق مثل ذلك لرافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع انتهى. وقال البخاري : أنبأنا شعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بينما راع في غنمه إذا عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه وكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث. فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، وبقرة تتكلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر؟ قال ابن الأعرابي: السبع بسكون الباء الموضع الذي عنده المحشر يوم القيامة. أراد من لها يوم القيامة. وقيل: هذا التفسير يفسد بقول الذئب في تمام الحديث يوم لا راعي لها غيري، والذئب لا يكون لها راعياً يوم القيامة. وقيل أراد من لها يوم الفتن حين يتركها الناس هملاً لا راعي لها نهبة للسباع والذئاب، فجعل السبع لها راعياً إذ هو منفرد بها. ويكون حينئذ بضم الباء. وهذا إنذار ربما يكون من الشدائد والفتن التي تأتي حتى يهمل الناس فيها مواشيهم وتتمكن منها السباع بلا مانع. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى يوم السبع عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه بلهوهم ولعبهم وأكلهم فيجيء الذئب فيأخذها وليس هو بالسبع الذي يفترس الناس. قال: وأملاه أبو عامر العبدي الحافظ بضم الباء وكان من العلم والاتقان بمكان. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما إذ جاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود عليه الصلاة والسلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان فأخبرتاه بذلك فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين فقالت الصغرى: لا ويرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى " . قال أبو هريرة
(1/367)
رضي الله تعالى عنه والله ما سمعت بالسكين قط، إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية واستدل بهذا الحديث من جوز أن المرأة تستلحق اللقيط، وأنه يلحقها لأنها أحد الأبوين. ونقله صاحب التقريب عن ابن سريج والأصح أنه لا يلحقها إذا استلحقته لإمكان إقامة البينة على الولادة بطريق المشاهدة بخلاف الرجل. وفيه وجه ثالث يلحق الخلية دون المزوجة، لتعذر الإلحاق بها دونه، وإذا قلنا يلحقها بالإستلحاق. وكان لها زوج لم يلحقه في الأصح وليس المراد بالزوج من هي في عصمته، بل كونها فراشاً، لشخص لوثبت نسب اللقيط منها بالبينة، لحق صاحب الفراش سواء كانت في العصمة أو في العدة. وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاسية إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد " . وفي تاريخ ابن النجار عن وهب بن منبه قال: بينما امرأة من بني إسرائيل، على ساحل البحر تغسل ثيابها، وصبي لها يدب بين يديها، إذ جاء سائل فأعطته لقمة من رغيف كان معها، فما كان بأسرع من أن جاء ذئب فالتقم الصبي، فجعلت تعدو خلفه وتقول: يا ذئب ابني يا ذئب ابني، فبعث الله ملكا فنزع الصبي من فم الذئب ورمى به إليها. وقال: لقمة بلقمة. وهو في الحلية عن مالك بن دينار وقال: أخذ السبع صبياً لامرأة فتصدقت بلقمة فرماه السبع فنوديت لقمة بلقمة. وروى الإمام أحمد في الزهد عن سالم بن أبي الجعد، قال: خرجت امرأة وكان معها صبي لها، فجاء الذئب فاختلسه منها فخرجت في أثره وكان معها رغيف، فعرض لها سائل فأعطته الرغيف، فجاء الذئب بصبيها فرده عليها وقد تقدم نظير ذلك عنه في باب الهمزة في الأسود السالخ. قال ابن سعد كان موسى بن أعين راعياً بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الذئاب والشاه والوحش ترعى في موضع واحد فبينما نحن ذات ليلة إذ عرض الذئاب لشاة، فقلنا ما نرى الرجل الصالح إلا قد مات، فنظرنا فإذا عمر بن عبد العزيز قد مات تلك الليلة، وذلك لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة كما تقدم في الأوز وكانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر. وروى الإمام أحمد في الزهد أيضاً عن مالك بن دينار قال: لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس، قال رعاة الشاة: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟ قيل لهم: وما أعلمكم بذلك قالوا إنه إذا ولي على الناس خليفة عدل كفت الذئاب والأسد عن شياهنا.
الحكم: يحرم أكله لتقويته بنابه.
الأمثال: وصفته العرب بأوصاف مختلفة فقالوا : " أغدر من ذئب " . واختل وأخبث وأخون وأجول وأعتى وأعوى وأظلم وأحرأ وأكسب وأجوع وأنشط وأوقح وأجسر وأيقظ وأعق وألأم من ذئب " . وقالوا: " أخوك، أم الذئب " وقالوا : " أخف رأساً من الذئب " . لأنه ينام بإحدى مقلتيه كما تقدم. وسيأتي له ذكر في أمثال الغراب. وقالوا في الدعاء على العدو: رماه الله بداء الذئب أي الجوع، وقالوا: الذئب يكنى أبا جعدة كما تقدم، وقالوا: " من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم " . أي ظلم الغنم، ويجوز أن يراد به ظلم الذئب، حيث كلفه ما ليس في طبعه، وأول من قال ذلك أكثم بن صيفي، وقاله عمر رضي الله تعالى عنه في قصة سارية بن حصن المشهورة، وذلك أنه كان يخطب يوم الجمعة بالمدينة فقال في خطبته: " يا سارية بن حصن الجبل الجبل من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم. فالتفت الناس بعضهم إلى بعض، ولم يفهموا مراده فلما قضى صلاته، قال له علي كرم الله وجهه: ما هذا الذي قلته؟ قال: أو سمعته؟ قال: نعم. أنا وكل من في هذا المسجد. قال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه، قاتلوا من وجدوا وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا فخرج مني هذا الكلام، فجاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، في تلك الساعة حين جاوزوا الجبل، صوتاً يشبه صوت عمر رضي الله تعالى عنه يقول: يا سارية بن حصن الجبل الجبل! فعدلوا إليه ففتح الله عليهم. كذا نقله في تهذيب الأسماء واللغات، وفي طبقات ابن سعد وأسد الغابة أنه سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر. وأنشدوا في معنى هذا المثل البيت:
وراعي الشام يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب!
(1/368)
كان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى يقول لعلماء الدنيا في زمانه: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية وبيوتكم كسروية، وأثوابكم طالوتية، وأخفافكم جالوتية، وأوانيكم فرعونية، ومراكبكم قارونية، وموائدكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين المحمدية.
الخواص: إذا علق رأس الذئب في برج حمام لم يقر به سنور ولا شيء يؤذي الحمام. وكعب الذئب الأيمن إذا علق على رأس رمح، ثم إجتمع عليه جماعة لم يصلوا إليه ما دام الكعب معلقاً على رمحه. وعينه اليمنى من علقها عليه لم يخف لصاً ولا سبعاً. وخصيته إذا شقت وملحت بملح وسقي منها وزن مثقال بماء الجرجير من به وجع الخاصرة أبرأه، وهو نافع أيضاً لذات الجنب إذا شرب منها بماء حار وعسل. ودمه ينفع من الصمم إذا ديف بدهن الجوز وقطر في الأذن. ودماغه يداف بماء السذاب والزيت ويدهن به الجسد ينفع من كل علة ظاهرة وباطنة في البدن من البرد.
وأنيابه وجلده وعينه إذا حملها الإنسان معه غلب خصمه، وكان محبباً إلى الناس جميعا وكبده تنفع من وجع الكبد. وقضيبه إذا شوي في الفرن ومضغت منه قطعة هيجت الباه، وإذا خلطت مرارته بالعسل أو بالماء ولطخ بها الذكر وقت الجماع أحبت المرأة الرجل حبا شديداً. وإذا علق ذنب الذئب على معلف بقر لم تقرب إليه ما دام معلقاً، وإن أجهدها الجوع. وإن بخر موضع بزبله لم يقربه الفأر. وقيل: يجتمع إليه الفأر، وإذا إجتمع جلده وجلد شاة في موضع واحد تجرد جلد الشاة كما تقدم. ومن أدمن الجلوس على جلده أمن من القولنج، وإذا علق وتر من ذنبه على شيء من الملاهي وضرب بها تقطعت جميع أوتار الغنم التي تكون على الملاهي، ولم يسع لها صوت، وإذا بخر بجلد الذئب حانوت من يعمل الدفوف التي تلعب بها النساء، تشققت وإن اتخذ طبل من جلده وضرب به بين طبول تشققت الطبول كلها. وشحمه ينفع من داء الثعلب، وشرب مرارته ينفع من استرخاء البطن، وإذا لطخ بها على الإحليل جامع الرجل ما شاء، وإذا طلي بمرارته مع مرارة نسر ودهن الزئبق هيج الباه وأنعظ. وربما أنزل من لذة ذلك وإذا ديفت مرارته بدهن ورد ودهن بها الرجل حاجبيه أحبته المرأة إذا مشي بين يديها. وإذا خلطت مرارته بورس وطلي بها الوجه أذهب البهق. وعين الذئبة إذا علقت على من يصرع تمنع من الصرع، وإن أخذ عظم من العظام التي توجد في ذيل الذئب، وخدش بها الضرس الوجع أبرأه من وقته. وقال جالينوس: يسعط بمرارة الذئب ودهن البنفسج من به الشقيقة المزمنة، فإنه يبرأ. وإن سعط بذلك المولود أمن من الصرع ما عاش. وعيناه إذا علقتا على صبي لم يصرع وإن أخذ جزء من مرارة الذئب وجزء من عسل لم تصبه النار واكتحل به نفع من ظلمة العين وضعف البصر. وإن عقد ذنب الذئب بإسم امرأة، لم يقدر عليها أحد من الرجال، حتى تحل العقدة. وأن خلطت مرارة الذئب بعسل، وطلي به الذكر، وجامع امرأة، فإنها تحب ذلك الرجل حباً شديداً، ودم الذئب ينضج الجراحات.
صفة طلسم لجمع الذئاب: يعمل تمثال ذئب من نحاس ويجوف داخله، ويوضع فيه قضيب ذئب ويصفر به فتجتمع الذئاب التي تسمع صوته إليه.
صفة طلسم تهرب منه الذئاب: يعمل تمثال ذئب من نحاس، ويحشى من خرء ذئب، ويدفن في أي موضع أردت فإن الذئاب تهرب من ذلك الموضع.
التعبير: تدل رؤيته على الكذب والحيلة والعداوة للأهل والمكر بهم. وقيل: الذئب في الرؤيا لص غشوم ظلوم وجروه ولد لص، فمن رأى جرو ذئب فإنه يربي لصاً لقيطاً، وإن تحول الذئب حيواناً أنسياً كالخروف وشبهه فإنه لص يتوب ومن رأى ذئباً دخل داره فليحذر اللصوص، ومن رأى ذئباً فإنه يتهم إنساناً ويكون المتهم بريئاً لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام. ومن رأى ذئباً وكلباً واجتمعا على النفاق والمكر والخديعة والله أعلم.
ذؤالة: إسم للذئب كأسامة للأسد وهو معرفة. سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته وهي المشية الخفيفة.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبياً لها وتقول ذؤال يا ابن القرم يا ذؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تقولي ذؤال فإنه شر السباع، وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد " .
الذيخ: بكسر الذال ذكر الضباع الكثير الشعر والأنثى ذيخة والجمع ذيوخ وأذياخ وذيخة.
(1/369)
روى البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي التفسير عن إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني أخي عبد الحميد، وعن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك أن لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أن يكون أبي في النار؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " . ورواه النسائي والبزار والحاكم في آخر المستدرك. عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة يريد أن يدخله الجنة قال: فينادي إن الجنة لا يدخلها مشرك لأن الله حرم الجنة على كل مشرك، قال: فيقول: " أي رب أبي فيحول في صورة قبيحة، وريح منتنة فيتركه " . قال: فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون أنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولم يزدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ثم روى الحاكم عن حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبت أي ابن كنت لك فيقول: خير ابن فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بازرتي فيأخذ بازرته ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض الخلق، فيقول: يا عبدي إدخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني. قال: فيمسخ الله أباه ضبعاً ثم يلقى في النار فيؤخذ بأنفه، فيقول الله تعالى: يا عبدي أبوك هو فيقول لا وعزتك " . ثم قال: صحيح على شرط مسلم، وفي حديث خزيمة بن ثابت أو ابن حكيم السلمي البهزي وليس بالأنصاري: " والذيخ محرنجم أي كالح منقبض من شدة الجذب " . وهو حديث طويل شرحه ابن الأثير في أوائل كتاب مثال الطالب، والحكمة في كونه مسخ ضبعاً، دون غيره من الحيوان أن الضبع أحمق الحيوان، كما سيأتي إن شاء الله، في أمثال الضبع. ومن حمقه أنه يغفل عما يجب التيقظ له. ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. لا أكون كالضبع تسمع اللدم فتخرج حتى تصاد. والدم الضرب الخفيف، فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه، وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق. لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمي في جحرها بحجر فتحسبه شيئاً تصيده، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك. ويقال لها وهي في جحرها: أطرفي أم طريق خامري أم عامر أبشري بجراد عطلى وشاة هزلى، فلا يزال يقال لها ذلك، حتى يدخل عليها الصائد، فيربط يديها ورجليها، ثم يجرها. ولأن آزر لو مسخ كلباً أو خنزيراً لكان فيه تشويه الخلقة، فأراد الله تعالى إكرام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بجعل أبيه على هيئة متوسطة. قال في المحكم: يقال ذيخته أي ذللته فلما خفض إبراهيم لأبيه جناح الذل من الرحمة، فلم يقبل حشر، بصفة الذل يوم القيامة. وهذه الحكمة هي أحد الأسباب الباعثة على تأليف هذا الكتاب كما تقدم في خطبته والله أعلم.
؟باب الراء المهملة
الراحلة: قال الجوهري: هي الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول ويقال الراحلة المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى انتهى. والهاء فيها للمبالغة كالتي في داهية وراوية وعلامة. وإنما سميت راحلة لأنها ترحل أي يشد عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة كقوله تعالى: " فهو في عيشة راضية " ، أي مرضية. وقد ورد فاعل بمعنى مفعول في عدة مواضع من القرآن العظيم. كقوله تعالى: " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " أي لا معصوم وكقوله تعالى: " ماء دافق " أي موفوق. وكقوله تعالى: " حرما آمنا " أي مأموناً. وفيه جاء أيضاً مفعول بمعنى فاعل، كقوله تعالى: " حجاباً مستوراً أي ساتراً " ، و " كان وعده مأتياً " ، أي آتياً. قال الحريري : وقد يكنى عن النعل بالراحلة، لأنها مطية القدم وإليها أشار الشاعر بقوله ملغزاً:
رواحلنا ست ونحن ثلاثة ... نجنبهن الماء في كل مورد
(1/370)
روى البيهقي في الشعب، في أواخر الباب الخامس والخمسين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من مشى عن راحلته عقبة فكأنما أعتق رقبة " . قال أبو أحمد: العقبة ستة أميال، وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة " . وقال البيهقي في سننه في باب إنصاف الخصمين في الدخول على القاضي والاستماع منهما والإنصاف لهما هذا الحديث يتأول على أن الناس في أحكام الدين سواء، لا فضل فيها الشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة، وهي الذلولة التي ترحل وتركب. وذكر قبله عن ابن سيرين أنه قال: كان أبو عبيدة بن حذيفة قاضياً، فدخل عليه رجل من الأشراف، وهو يستوقد ناراً، فسأله حاجة فقال له أبو عبيدة: أسألك أن تدخل أصبعك في هذه النار، قال سبحان الله. قال: أبخلت في بإصبع من أصابعك أن تدخله في هذه النار، وتسألني إدخال جسمي كله في نار جهنم. وقال ابن قتيبة: الراحلة النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، وهي كاملة الأوصاف، فإذا كانت في ابل عرفت. قاد: ومعنى الحديث أن الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب بل هل أشباه كالإبل المائة. وقال الأزهري: الراحلة عند العرب، الجمل النجيب والناقة النجيبة قال: والهاء فيها للمبالغة، كما يقال: رجل نسابة وداهية. قال: والمعنى الذي ذكره ابن قتيبة غلط، بل معنى الحديث أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها الراغب في الآخرة قليل جداً، كقلة الراحلة في الإبل هذا كلام الأزهري. قال الإمام النووي وهو أجود من كلام ابن قتيبة. وأجود منهما قول آخرين: أن المرضى الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جداً كقلة الراحلة في الإبل. قالوا: والراحلة البعير الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار. وقال الإمام العلامة الحافظ أبو العباس القرطبي، شيخ المفسرين في زمانه: الذي يقع لي أن الذي يناسب التمثيل بالراحلة، إنما هو الرجل الكريم الجواد الذي يتحمل كل الناس وأثقالهم، بما يتكلف من القيام بحقوقهم والغرامات عنهم وكشف كربهم. فهذا هو القليل الوجود بل قد يصدق عليه إسم المفقود. قلت: وهذا أشبه القولين والله أعلم.
الرأل: ولد النعام والأنثى رألة والجمع رئال ورئلان. وسيأتي ذكر النعام في باب النون إن شاء الله تعالى.
الراعي: بالراء والعين المهملتين طائر متولد بين الورشان والحمام وهو شكل عجيب. قاله القزويني وقال الجاحظ: إنه متولد بين الحمام والورشان وهو كثير النسل، ويطول عمره وله فضل وعظم في البدن والفرخ عليهما زلة في الهدير قرقرة ليست لأبويه، حتى صارت سبباً للزيادة في ثمنه وعلة للحرص على اتخاذه وقد ضبطه بعض مصنفي العمر بالزاي والغين المعجمتين وهو وهم.
الربى: على وزن فعلى بالضم: الشاة التي وضعت حديثاً، وإن مات ولدها فهي أيضاً ربى وقيل: ربابها ما بينها وبين عشرين يوماً، وقيل: هي ربى ما بينها وبين شهرين من وضعها، وخصها أبو زيد بالمعز وغيره بالضأن وقيل: الربى من المعز والرعوث من الضأن وجمعها رباب بالضم. قلت: وقد جاء الجمع على فعال في خمس عشرة كلمة رباب جمع ري، ورخال الآتي في الباب. ورذال جمع رذل، وبساط جمع بسط، وناقة بسيطة أي هزيلة وتؤام تقول هذا در تؤام أي من التوأمين ونذال جمع نذل، ورعاة جمع راع، وقماء جمع قميء أي حقير، وجمال مع جمل، وسحاح جمع سح، المطر أي كثرة أنصبابه، وعراق جمع عرق. قال علي كرم الله وجهه: الدنيا أهون على الله من عراق خنزير بيد أجذم. وظؤار جمع ظئر وهي الدابة وثناء جمع ثني واحد أثناء الشيء، وعزاز جمع عزيز وفرار جمع فرير وهو الظبي.
(1/371)
الرباح: بفتح الراء الموحدة المخففة: دويبة كالسنور، وهي التي يجلب منها الزباد ، وهذا هو الصواب في التعبير ووهم الجوهري فقال في النسخة التي بخطه: الرباح إسم دويبة يجلب منها الكافور وهو وهم عجيب. فإن الكافور صمغ شجر بالهند والرباح نوع منه فكأن الجوهري لما سمع أن الزباد يجلب من الحيوان سرى ذهنه إلى الكافور، فذكره. وسيأتي ذكره في باب الزاء المعجمة، فلما رأى ابن القطاع هذا الوهم، أصلحه فقال: والرباح بلد يجلب منه الكافور، وهو أيضاً وهم، لأن الكافور صمغ شجر يكون داخل الخشب ويتخشخش فيه إذا حرك فينشر ويستخرج وقد أجاد ابن رشيق بقوله:
فكرت ليلة وصلها في صدها ... فجرت بقايا أدمعي كالعندم
فطفقت أمسح مقلتي في نحرها ... إذ عادة الكافور إمساك الدم
الرباح: بضم الراء المهملة وتشديد الباء الموحدة ذكر القرود وسيأتي حكمه.
الأمثال: قالوا: أجبن من رباح.
الربح: بضم الراء المهملة وفتح الباء الموحدة الفصيل كأنه لغة في الربيع والربح أيضاً طائر قاله الجوهري.
الربية: دويبة بين الفأر وأم حبين قاله ابن سيده وقال غيره هي الفأر.
الرتوت: الخنازير. قاله الجوهري بعد أن قال: الرت الرئيس وهؤلاء رتوت البلد. وقال في المحكم: الرت شيء يشبه الخنزير البري، وجمعه رتوت. وقيل هي الخنازير الذكور وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة.
الرثيلا: بضم الراء المهملة وفتح الثاء المثلثة جنس من الهوام ويمد أيضاً وسيأتي ذكرها في آخر الصيد وقال الجاحظ: الرثيلا نوع من العناكب وتسمى عقرب الحيات، لأنها تقتل الحيات. والأفاعي انتهى. وقال أبو عمر وموسى القرطبي الإسرائيلي: الرثيلا إسم يقع على أنواع كثيرة من الحيوان. وقيل: إنها ستة أنواع، وقيل: ثمانية وكلها من أصناف العنكبوت. وذكر حذاق الأطباء أن أعظم هذه الأنواع شراً: المصرية، أما النوعان الموجودان في البيوت، في أكثر البلاد، فهما العنكبوت ونكايتهما قليلة. وأما بقية الأنواع الأخرى من الرثيلات فإنها توجد غالباً في الأرياف، ومنها نوع له زغب، وأهل مصر يسمونه أبا صوفة. ونهش هذه الأنواع كلها قريب من لسع العقرب وسيأتي ذكرها في الصاد في الصيدان إن شاء الله تعالى. ومن خواصها أن شرب دماغهما مع شيء من الفلفل ينفع من سمها.
وهي في الرؤيا تدل على امرأة مؤذية مفسدة لما يصلحه الناس من نسج ناقضة لما يبرمونه منه. وقيل: هي في الرؤية عدو قتال حقير المنظر شديد الطعنة والله أعلم.
الرخل: الأنثى من ولد الضأن والجمع رخال كما تقدم.
الرخ: بالخاء المعجمة في آخره طائر في جزائر بحر الصين يكون جناحه الواحدة عشر آلاف باع، ذكره الجاحظ وأبو حامد الأندلسي قال: وقد كان وصل إلى أرض المغرب رجل من التجار ممن سافر إلى الصين وأقام بها مدة وكان عنده أصل ريشة من جناحه، كانت تسع قربة ماء وكان يقول: إنه سافر مرة في بحر الصين فألقتهم الريح إلى جزيرة عظيمة فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب، فرأوا قبة عظيمة أعلى من مائة ذراع، ولها لمعان بريق فعجبوا منها فلما دنوا منها إذا هي بيضة الرخ، فجعلوا يضربونها بالخشب والفؤوس والحجارة حتى انشقت عن فرخ كأنه جبل، فتعلقوا بريشة من جناحه فجروه، فنفض جناحه، فبقيت هذه الريشة معهم وخرج أصلها من جناحه، ولم يكمل بعد خلقه فقتلوه وحملوا ما قدروا عليه من لحمه وقد كان بعضهم طبخ بالجزيرة قدراً من لحمه، وحركها بعود حطب ثم أكلوه. وكان فيهم مشايخ فلما أصبحوا إذ هم قد اسودت لحاهم ولم يشب بعد ذلك من أكل من ذلك الطعام. وكانوا يقولون: إن ذلك العود الذي حركوا به القدر من عود شجرة النشاب، قال: فلما طلعت الشمس، إذا بالرخ قد أقبل في الهواء كأنه سحابة عظيمة في رجله حجر كالبيت العظيم أكبر من السفينة فلما حاذى السفينة ألقى ذلك الحجر بسرعة فوقع الحجر في البحر وسبقت السفينة ونجاهم الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته. والرخ من أدوات الشطرنج والجمع رخاخ ورخخة قال ابن سيده وقد أجاد سري الرفاء حيث قال:
وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين
راحوا إلى الراح مشي الرخ وانصرفوا ... والراح يمشي بهم مشي البراذين
ومن مستحسن شعره قوله :
(1/372)
بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام
وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حد الحسام
التعبير: الرخ في المنام يدل على أخبار غريبة، وأسفار بعيدة، وربما دل على الهذر في الكلام الصحيح والسقيم. وكذلك العنقاء والله أعلم. وسيأتي حكمها في باب العين المهملة.
الرخمة: بالتحريك طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، وكنيتها أم جعفران وأم رسالة وأم عجيبة وأم قيس وأم كبير، ويقال لها الأنوق والجمع رخم والهاء فيه للجنس قال الأعشى:
يا رخماً قاظ على مطلوب ... يعجل كف الخارىء المطيب
مطلوب إسم جبل، والمطيب معناه الذي يطلب طيب النفس بالاستنجاء. ومنه الاستطابة وتسمى الرخمة بالأنوق كما تقدم. ويقال لها ذات الإسمين لذلك، وهي تحمق مع تحرزها. قال الكميت:
وذات إسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيسة الحويل
أي الحيلة، وذكر عند الشعبي الروافض، فقال: لو كانوا من الدواب لكانوا حمراً، ولو كانوا من الطير لكانوا رخماً. ومن طبع هذا الطائر أنه لا يرضى من الجبال إلا بالموحش منها ولا من الأماكن إلا باسحقها وأبعدها من أماكن أعدائه، ولا من الهضاب إلا بصخورها. ولذلك تضرب العرب المثل بالامتناع ببيضه فيقولون: " أعز من بيض الأنوق " كما تقدم. والأنثى منه لا تمكن من نفسها غير ذكرها، وتبيض بيضة واحدة وربما أتأمت وهي من لئام الطي، وهي ثلاثة: البوم والغراب والرخمة.
وحكمها: تحريم الأكل كما تقدم. روى البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الرخمة " . وإسناده ليس بالقوي وقال الإمام العلامة القرطبي، في تفسير آخر سورة الأحزاب: " كالذين آذوا موسى بقولهم أنه قتل أخاه هارون، فتكلمت الملائكة بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخمة فلذلك جعله الله أصم أبكم " وكذلك رواه الحاكم في المستدرك وفي كتاب تواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال الزمخشري: تقول في صياحها سبحان ربي الأعلى.
الأمثال: قالوا: " أحمق من رخمة وأموق " . وإنما خصت من بين الطير بذلك، لأنها ألأم الطير وأظهرها حمقاً وموقاً، وأقذرها طعماً، لأنها تأكل العذرة. وقالوا: إنطقي يا رخم فإنك من طير الله أصله أن الطير صاحت فصاحت لرخمة، فقيل لها: يهزأ بها إنك من طير الله فانطقي يضرب للرجل الذي لا يلتقت إليه ولا يسمع منه.
الخواص: إذا بخر البيت بريشها طرد الهوام وزبلها يداف بخل خمر ويطلى به البرص يغير لونه وينفعه. وكبدها تشوى وتسحق وتداف ويسقى ذلك لمن به جنون، كل يوم ثلاث مرات ثلاثة أيام متوالية يشفى. وإن علق رأسها على المرأة التي عسرت ولادتها، وضعت سريعاً، والجلد الأصفر الذي على قانصة الرخمة إذا أخذ وسحق بعد تجفيفه، وشرب بشراب العسل نفع من كل سم. وعظم رأس الرخمة ينفع من وجع الرأس تعليقاً.
التعبير: الرخمة في الرؤيا إنسان أحمق قذر، فمن رأى أنه أخذ رخمة فإنه يقع في حرب يسفك فيه دم كثير. وقيل: من أخذ رخمة مرض مرضاً شديداً. وقالت النصارى: الرخم الكثير يدل على عسكر يحل في ذلك المكان، وهم سفلى يأكلون الحرام. وقال ارطاميدروس الرخم دليل خير لمن صنعته خارج البلد كالكلاسين وصناع الآجر، لأن الرخم لا يدخل البلد، والرخم في المنام يدل على ناس يغسلون الموتى، ويسكنون المقابر، لأن الرخم يأكل الجيفة ولا يدخل المدن، ومن رأى رخمة في دار وكان فيها مريض، فإنه يموت. وإن لم يكن في الدار مريض خشي على صاحب الدار من الموت أو المرض الشديد. والله أعلم.
الرشأ: بفتح الراء الظبي إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه والجمع أرشأ. أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي رحمه الله تعالى قال: أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان، قال: أنشدنا شيخنا أبو جعفر بن الزبير قال: أنشدنا أبو الخطاب بن خليل قال: أنشدنا شيخنا أبو جعفر عمر بن عمر قاضي أشبيلية لنفسه، وقد أهديت إليه جارية، فتبين له أنه قد كان وطىء أمها فردها ومعها هذه الأبيات:
يا مهدي الرشا الذي ألحاظه ... تركت جفوني نصب تلك الأسهم
ريحانة كل المنى في شمها ... لولا المهيمن واجتناب المحرم
(1/373)
ما عن قلى صرفت إليك وإنما ... صيد الغزالة لم يبح للمحرم
يا ويح عنترة يقول وشفه ... ما شفني وجد وإن لم أكتم
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم
وقال أبو الفتح البستي وأجاد:
من أين للرشا الغرير الأحور ... في الخد مثل عذارك المتحدر
رشأ كأن بعارضيه كليهما ... مسكاً تساقط فوق ورد أحمر
الرشك: بضم الراء وإسكان الشين المعجمة، وهو بالفارسية إسم للعقرب. ذكر القاضي الإمام أبو الوليد ابن الفرضي في كتاب الألقاب، في أسماء نقلة الحديث، والخطيب أبو علي الغساني، في كتاب تقييد المهمل، والقاضي أبو الفضل عياض بن موسى، في كتاب مشارق الأنوار، والحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وغيرهم: أن يزيد بن أبي يزيد واسمه سنان الضبعي، مولاهم البدري الدارد المعروف بالرشك، أنه لقب بذلك لكبر لحيته قيل: إن العقرب دخل في لحيته، فأقامت ثلاثة أيام وهو لا يدري بها لعظم لحيته، وطولها، قال ابن دحية في كتابع العلم المنشور: والعجب كيف لا يحس بها وكيف لا تسقط عند وضوئه للصلاة، ولعله كان لا يخلل لحيته لكبرها، أو كانت العقرب صغيرة جداً، فاختبأت بين الشعر، وأما كونها مقدرة بثلاثة أيام فهذا التقدير كيف يصح؟ لأنه لو علم بها في أول وجودها في لحيته ما تركها فمن أين تعلم هذه المدة؟ انتهى. والذي عندي في ذلك أنه يحتمل أن يكون في منتزه، أو كان في مكان فيه العقارب كثيرة، وكانت مدة إقامته في ذلك المكان ثلاثة أيام، فلما أصابها بعد ذلك، علم أن مبدأ وجودها كان من ذلك الوقت، وهذا أولى من تكذيب من رواه من الأئمة الأعلام. فقد روى الحاكم أبو عبد الله في كتاب علوم الحديث، له عن يحيى بن معين أنه قال: كان يزيد يسرح لحيته فخرج منها عقرب، فلقب بالرشك انتهى.
والمشهور أن الرشك هو القسام بلغة أهل البصرة، سمي بذلك لأنه كان يقسم الأرض والدور وغير ذلك. مات بالبصرة سنة ثلاثين ومائة وروى له الجماعة. قال الترمذي أبو عيسى في باب ما جاء في صوم ثلاثة من كل شهر. حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن يزيد الرشك، قال: سمعت معاذا يقول: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. قالت: نعم. قلت: من أيها كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيها صام. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ويزد الرشك هو يزيد بن أبي يزيد الضبعي، وهو يزيد القاسم، وهو القسام. والرشك هو القسام بلغة أهل البصرة كما تقدم.
الرفراف: طائر يقال له ملاعب ظله، ويقال له خاطف ظله، وسيأتي الكلام عليه في باب الميم والظليم أيضاً يقال له رفراف، لرفرفته عند عدوه والرفرف ضرب من السمك قاله ابن سيده.
الرق: بكسر الراء بالقاف ضرب من دواب الماء يشبه التمساح، والرق أيضاً العظيم من السلاحف وجمعه رقوق. وفي غريب الحديث كان فقهاء المدينة يشترون الرق ويأكلونه. رواه الجوهري بفتح الراء والأكثرون بكسرها.
الركاب: بكسر الراء الإبل، واحدتها راحلة وجمعها ركائب. وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً، عليهم قيس بن سعد بن عبادة، فجهد وانتحر لهم قيس تسع ركائب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت " . ويجمع أيضاً على ركب ومنه قيل: زيت ركابي، لأنه يحمل على ظهور الإبل. والركوبة ما يركب، يقال: ما له ركوبه، حلوبة ولا حمولة، أي ما يركبه ويحلبه. ويحمل عليه. وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها فمنها ركوبتهم. وجمع الركوبة ركائب انتهى. وقال السهيلي، قبيل الكلام على ما أنزل الله تعالى، في غزوة بدر: والركوبة ركائب. انتهى. ولو أراد الجمع بغير هاء لقال: ركب كعجز. كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إن الجنة لا يدخلها العجز " . قالها ممازحاً لعمته صفية رضي الله عنها، وقيل: بل قالها لامرأة من الأنصار. ذكر ذلك هناد بن السري في كتاب الرقائق له.
الركن: الفأر ويسمى ركيناً على لفظ التصغير قاله ابن سيده.
(1/374)
الرمكة: بالتحريك الأنثى من البراذين والجمع رماك ورمكات وأرماك أيضاً عن الفراء مثل ثمار وأثمار ووقع في الوسيط في الباب الثاني من أبواب البيع لو قال: بعتك هذه النعجة فإذا هي رمكة ففي قول يعول على الإشارة وفي قوله آخر يعول على العبارة قال ابن الصلاح: هذا تصحيف، إنما هو هذه البغلة فإن الرمكة لا تشتبه بالنعجة.
الرهدون: والرهدنة بفتح الراء، طائر يشبه الحمرة يرهدن في مشيته كأنه يستدبر وجمعه رهادن، وهو كثير بمكة خصوصاً بالمسجد الحرام وهو يشبه العصافير إلا أنه أدبس.
الروبيات: هو سمك صغير جداً أحمر.
الخواص: إن طرحت رجل الروبيان في شراب من يحب الشراب أبغضه، ورقبته ينحر بها فيسقط الجنين وإذا دق الروبيان وهو طري، وضمد به موضع الشوك أو السهم الغائص في البدن أخرجه بسهولة. وإن سلق مع الحمص الأسود وضمد به السرة أخرج حب القرع. وإن جفف وسحق واكتحل به صاحب الغشاوة نفعه. وإن سحق مع سكنجبين وشرب أخرج حب القرع من الجوف. قاله عبد الملك بن زهر.
الريم: ولد الظبي والجمع آرام قال الشاعر:
بها العير والآرام يمشين خلفه ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. وقال الأصمعي: الآرام الظباء البيض الخالصة البياض، الواحدة ريم. قال: وهي تسكن الرمال وهذا النوع من الظباء، يقال إنه ضأنها لأنه أكثرها شحماً ولحماً. وكان زكي الدين بن كامل القطيعي أبو الفضل يعرف بقتيل الريم، وأسير الهوى. توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة. ومن شعره:
لي مهجة كادت بحر كلومها ... للناس من فرط الجوى تتكلم
لم يبق منها غير أرسم أعظم ... متحدثات للهوى تتظلم
أم رباح: بفتح الراء تخفيف الباء الموحدة وحاء مهملة طائر أغبر أحمر الجناحين والظهر يأكل العنب قاله في المرصع.
أبو رباح: بكسر الراء وتخفيف الباء المثناة تحت اليؤيؤ وسيأتي في آخر الكتاب.
ذو رميح: مصغر اليربوع، ورمحه ذنبه. وقيل: هو ضرب من اليرابيع طويل الرجلين قاله ابن سيده.
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
باب الزاي
الزاغ: من أنواع الغربان، يقال له الزرعي وغراب الزرع، وهو غراب أسود صغير، وقد يكون محمر المنقار والرجلين، ويقال له غراب الزيتون، لأنه يأكله. وهو لطيف الشكل حسن المنظر لكن وقع في عجائب المخلوقات، أنه الأسود الكبير وأنه يعيش أكثر من ألف سنة، وهو وهم، والصواب الأول.
عجيبة: رأيت في المنتقى، من انتخاب الحافظ السلفي، وفي آخر ورقة من عجائب المخلوقات، عن محمد بن إسماعيل السعدي، أنه قال: وجه إلى يحيى بن أكثم، فتوجهت إليه، فلما دخلت عليه، إذا عن يمينه قمطر فأجلسني، وأمر أن يفتح، فإذا شيء خرج منه رأسه كرأس إنسان، ومن أسفله إلى سرته على هيئة زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان، قال: ففزعت منه ويحيى يضحك، فقلت له: ما هذا أصلحك الله؟ فقال لي: سل عنه منه! فقلت له: ما أنت؟ فنهض وأنشد بلسان فصيح:
أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه
أحب الراح والريحان ... والقهوة والنشوه
فلا عدوى يدي تخشى ... ولا يحفر لي سطوه
ولي أشياء تستظرف ... يوم العرس والدعوه
فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه
وأما السلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه
لما شك جميع النا ... س فيها أنها ركوه
ثم صاح ومد صوته زاغ زاغ، وانطرح في القمطر. فقلت: أعز الله القاضي وعاشق أيضاً فقال: هو مما ترى لا علم لي بأمره، إلا أنه حمل إلى أمير المؤمنين، مع كتاب مختوم فيه ذكر حاله، لم أقف عليه، انتهى. وهذا الخبر قد رواه الحافظ أبو طاهر السلفي على غير هذه الطريقة، وهو ما أخبر به موسى الرضي قال: قال أبو الحسن علي بن محمد: دخلت على أحمد بن أبي داؤد، وعن يمينه قمطر فقال لي: اكشف وانظر العجب، فكشفت فخرج علي رجل طوله شبر من وسطه إلى أعلاه رجل، ومن وسطه إلى أسفله صورة زاغ ذنبا ورجلا، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له ثم سألته عن اسمه فقال:
أنا الزاغ أبو عجوه ... حليف الخمر والقهوه
(1/375)
ولي أشياء لا تنكر ... يوم القصف في الدعوه
فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه
ومنها سلعة في الصد ... ر لو كان لها عروه
لما شك جميع النا ... س حقا أنها ركوه
ثم قال أنشدني شيئاً في الغزل فأنشدته:
وليل في جوانبه فضول ... من الإظلام أطلس غيهبان
كأن نجومه دمع حبيس ... ترقرق بين أجفان الغواني
فصاح وأبي وأمي ورجع إلى القمطر وستر نفسه، فقال ابن أبي دؤاد: وعاشق أيضاً!.
قال ابن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم: إنه لما ولي البصرة، كان سنه نحو عشرين سنة، فاستصغره أهل البصرة، وقالوا له: كم سن القاضي؟ فعلم أنهم استصغروه، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي عليه الصلاة قاضياً على مكة يوم الفتح، ومن معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضياً على اليمن، ومن كعب بن سور الذي وجه به عمر رضي الله تعالى عنه قاضياً على البصرة، فجعل جوابه احتجاجاً. قيل: لما أراد المأمون أن يولي رجلا القضاء، وصف له يحيى بن أكثم فاستحضره، فرآه دميم الخلق فاستحقره، فعلم يحيى ذلك فقال: يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي. فسأله فأجابه، فقلده القضاء. قال: ولم يعلم أحد غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد المعتزلي وكان حنفياً، ولم يكن على الإمام أحمد رحمه الله تعالى في محنته أشد منه. وسيأتي ذكر طرف من محنته في باب الكاف، في لفظ الكلب إن شاء الله تعالى. قال: وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها، وكان ليحيى يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله، وهو أن المأمون كان في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ولم يستطع أحد أن يحتج عليه في تحريمها غير يحيى، فقرر عنده تحريم المتعة، فقال المأمون: أستغفر الله تعالى، نادوا بتحريم نكاح المتعة.
وروي أن رجلا قال ليحيى: أيها القاضي كم آكل. فقال: فوق الجوع، ودون الشبع. قال: فكم أضحك. قال: حتى يسفر وجهك، ولا يعلو صوتك. قال: فكم أبكي. قال: لا تمل من البكاء من خشية الله. قال: فكم أخفي عملي؟ قال: ما استطعت. قال: فكم أظهر منه؟ قال: ما يقتدى بك البر، ويؤمن عليك قول الناس. فقال الرجل: سبحان الله قول وعمل ظاعن. قال: ولم يكن في يحيى ما يعاب به سوى ما كان يتهم به مما هو شائع عنه من محبة الصبيان، وحب العلو. وكان إذا رأى فقيهاً سأله عن الحديث، أو محدثاً سأله عن النحو، أو نحوياً سأله عن الكلام ليخجله ويقطعه، فدخل عليه يوماً رجل من أهل خراسان، فناظره فرآه متفنناً حافظاً، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم. قال: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن شريك عن أي إسحاق عن الحارث، أن علياً رضي الله تعالى عنه رجم لوطياً فأمسك ولم يكلمه. وتوفي بالربذة ودفن هناك سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائتين.
ونقل أنه رؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، إلا أنه وبخني وقال لي: يا يحيى خلطت على نفسك في دار الدنيا. فقلت: يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك قلت إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة مسلماً بالنار " . فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي إلا أنك خلطت على نفسك في دار الدنيا.
الذمامة بالذال المعجمة رداءة الخلق بضم اللام وبالدال المهملة رداءة الخلق بإسكان اللام، وأكثم بالثاء المثلثة، والربذة بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة، قرية من قرى المدينة، على طريق الحاج، وهي التي نفى عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري رضي الله تعالى عنهما إليها، فأقام بها حتى مات، وقبره ظاهر هناك يزار كما تقدم.
الحكم: يحل أكل الزاغ، وهو الأصح عند الرافعي، وبه قال الحكم وحماد ومحمد بن الحسن، وروى البيهقي في شعبه قال: سألت الحكم عن أكل الغربان قال: أما السود الكبار فكره أكلها، وأما الصغار التي يقال لها الزاغ فلا بأس بها. والأمثال تأتي إن شاء الله تعالى، في باب الغين المعجمة، في لفظ الغراب.
(1/376)
الخواص: لسان الزاغ يجفف ويأكله العطشان يذهب عطشه، ولو في وسط تموز، وكذلك قلبه إذا جفف وسحق وشربه إنسان لا يعطش في سفره، فإن هذا الطائر لا يشرب ماء في تموز، ومرارته تخلط بمرارة الديك ويكتحل بها تذهب ظلمة العين وتسود الشعر إذا طلي بها سواداً عجيباً وحوصلته تمنع نزولي الماء عند مباديه.
التعبير: الزاغ الذي في منقاره حمرة تدل رؤيته على رجل في سطوة ولهو وطرب. وقال ارطامدورس: الزاغ في المنام يدل على ناس يحبون المشاركة، وربما دل على أناس فقراء، وقيل: إنه يدل على الولد من الزنا والرجل الممزوج بالخير والشر والله أعلم.
الزاقي: الديك والجمع الزواقي، يقال: زقا يزقو إذا صاح، وكل صائح زاق. وفي حديث هشام بن عروة أنت أثقل من الزواقي يريد أنها إذا زقت سحراً تفرق السمار والأحباب. والزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدى يزقو ويزقى زقا أي صاح وكل زاق صائح، قاله الجوهري وقد تقدم في البومة قول توبة بن الحمير صاحب ليلى الأخيلية:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح
وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الصاد المهملة، في لفظ الصدى.
الزامور: قال التوحيدي: إنه حوت صغير الجسم ألوف لأصوات الناس، يستأنس باستماعها، ولذلك يصحب السفن متلذذاً بأصوات أهلها، وإذا رأى الحوت الأعظم، يريد الاحتكاك بها وكسرها، وثب الزامور ودخل أذنه، ولا يزال يزمر فيه حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب جرفاً أو صخرة. فإذا أصاب ذلك فلا يزال يضرب به رأسه حتى يموت. وركاب السفن يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه ليدوم ألفه لهم وصحبته لسفنهم ليسلموا من ضرر السمك العادي وإذا ألقوا شباك الصيد، فوقع الزامور أطلقوه لكرامته.
الزبابة: بفتح الزاي والباءين الموحدتين، بينهما ألف: الفأرة البرية تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه. وقيل: هي فأرة عمياء صماء، وجمعها زباب ويشبه بها الرجل الجاهل قال الحارث بن كلدة:
ولقد رأيت معاشراً ... جمعوا مالاً وولدا
وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا
أي لا يسمعون شيئاً يعني موتى. وصف الزباب بالتحير، والتحير إنما يحصل للأعمى وأراد بذلك أن الأرزاق لم تقسم على قدر العقول، والولد بضم الواو وللواحد والجمع وقوله لا تسمع الآذان رعداً أي لا. تسمع آذانهم، فاكتفى بالألف واللام عن الإضافة كقوله تعالى: " فإن الجنة هي المأوى " وبين أن آذانهم لشدة صممهم لا يسمعون بها الرعد. قال الإمام الثعالبي، في فقه اللغة، يقال: في آذانه وقر، فإن زاد فهو صمم، فإن زاد فهو طرش، فإن زاد حتى لا يسمع الرعد، فهو صلخ بالصاد المهملة والخاء المعجمة في آخره. انتهى. واختصت هذه الفأرة بالصمم، كما اختص الخلد بالعمى وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر حكمها، في باب الفاء، في لفظ الفأر.
الأمثال: قالوا: أسرق من زبابة لأنها تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه.
الزبزب: دابة كالسنور، قاله في العباب. وفي كامل ابن الأثير، في حوادث سنة أربع وثلاثمائة، قال: وفيها خافت العامة ببغداد من حيوان كانوا يسمونه الزبزب، ويقولون إنهم يرونه في الليل على أسطحتهم وأنه يأكل أطفالهم وربما عض يد الرجل أو يد المرأة فيقطعها، وكان الناس يتحارسون منه ويتراعون ويضربون بالطسوت والصواني وغيرها ليفزعوه، وارتجت بغداد لذلك. ثم إن أصحاب السلطان صادوا حيواناً في الليل أبلق بسواد، قصير اليدين والرجلين، فقالوا: هذا هو الزبزب، وصلبوه على الجسر فسكن الناس انتهى.
الزخارف: جمع زخرف وهو ذباب صغار ذات قوائم أربع يطير على الماء قال أوس بن حجر:
تذكر عيناً من عمان وماؤها ... له حدب تستن فيه الزخارف
الزرزور: بضم الزاي طائر من نوع العصفور سمي بذلك لزرزرته أي تصويته قال الجاحظ: كل طائر قصير الجناح كالزرازير والعصافير، إذا قطعت رجلاه لم يقدر على الطيران، كما إذا قطعت رجل الإنسان، فإنه لا يقدر على العدو. وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، في باب العين المهملة، في العصفور.
(1/377)
فائدة: روى الطبراني وابن أبي شيبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه قال : أرواح المؤمنين في أجواف طيور خضر، كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة، وما أحسن قول شيخنا الشيخ برهان الدين القيراطي رحمة الله تعالى عليه:
قد قلت لما مر بي معرضاً ... وكفه يحمل زرزورا
يا ذا الذي عذبني مطله ... إن لم يزر حقاً فزرزورا
وفي مناقب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، لعبد المحسن بن عثمان بن غانم، قال الشافعي: من عجائب الدنيا، طلسم على صفة الزرزور من نحاس في رومية، يصفر في يوم واحد من السنة فلا يبقى طائر من جنسه إلا أتى رومية وفي منقاره زيتونة، فإذا اجتمع ذلك عصر، وكان منه زيتهم في ذلك العام. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في السودانية، في باب السين المهملة.
وحكمه: الحل لأنه من أنواع العصافير.
ومن خواصه: أن لحمه يزيد في الباه، ودمه إذا وضع على الدماميل نفعها وإذا ذر رماد الزرزور على الجرح فإنه يختم بإذن الله تعالى.
التعبير: الزرزور دال على التردد في الأسفار، في البر والبحر، وربما دل على رجل مسافر يسافر كثيراً كالمكاري الذي لا يلبث في مكان، ونحوه وطعامه حلال لأنه حرم على نفسه الطعام والشراب لما أهبط الله آدم عليه السلام من الجنة، فلم يتناول شيئاً من ذلك حتى تاب الله تعالى عليه. وربما دل على التخليط في الأعمال الصالحة أو السيئة، أو على رجل ليس بغني ولا فقير، ولا شريف ولا وضيع، وربما دل على المهانة والقناعة، بأدنى العيش واللعب وربما كان كاتباً والله أعلم.
الزرق: طائر يصاد به، بين البازي والباشق، قاله ابن سيده. وقال الفراء: هو البازي الأبيض. والجمع الزراريق وهو صنف من البازي لطيف، إلا أنه أحر وأيبس مزاجاً، ولذلك هو أشد جناحاً وأسرع طيراناً وأقوى إقداماً، وفيه ختل وخبث، وخير ألوانه الأسود الظهر، الأبيض الصدر، الأحمر العين، قال الحسن بن هانئ في طريدته يصفه:
قد اغتدي بسفرة معلقه ... فيها الذي يريده من مرفقه
مبكرا بزرق أو زرقه ... وصفته بصفة مصدقه
كأن عينه لحسن الحدقه ... نرجسة نابتة في ورقه
ذو منسر مختضب بعلقه ... كم وزة صدنا به ولقلقه
سلاحه في لحمها مفرقه
الحكم: تحريم الأكل كما تقدم في البازي.
الزرافة: كنيتها، وهي بفتح الزاعي المخففة وضمها، وهي حسنة الخلق، طويلة اليدين، قصيرة الرجلين، مجموع يديها ورجليها نحو عشرة أذرع، ورأسها كرأس الإبل، وقرنها كقرن البقرة، وجلدها كجلد النمر، وقوائمها وأظلافها كالبقر، وذنبها كذنب الظبي، ليس لها ركب في رجليها، وإنما ركبتاها في يديها، وهي إذا مشت، قدمت الرجل اليسرى واليد اليمنى، بخلاف ذوات الأربع كلها فإنها تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن طبعها التودد والتأنس، وتجتر وتبعر ولما علم الله تعالى أن قوتها من الشجر، جعل يديها أطول من رجليها لتستعين بذلك على الرعي منها بسهولة. قاله القزويني في عجائب المخلوقات. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة محمد بن عبد الله العتبي البصري الإخباري الشاعر المشهور أنه كان يقول: الزرافة بفتح الزاي وضمها الحيوان المعروف وهي متولدة بين ثلاث حيوانات، بين الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبعان وهو الذكر من الضباع، فيقع الضبعان على الناقة فتأتي بولد بين الناقة والضبع، فإن كان الولد ذكراً، وقع على البقرة فتأتي بالزرافة، وذلك في بلاد الحبشة، ولذلك قيل لها الزرافة، وهي في الأصل الجماعة، فلما تولدت من جماعة، قيل لها ذلك. والعجم تسميها اشتركا، ويلنك لأن اشتر الجمل وكاو البقرة ويلنك الضبع.
وقال قوم: إنها متولدة من حيوانات مختلفة، وسبب ذلك اجتماع الدواب والوحوش في القيظ، عند المياه، فتتسافد فيلقح منها ما يلقح، ويمتنع منها ما يمتنع، وربما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة، فتختلط مياهها فيأتي منها خلق مختلف الصور والألوان والأشكال. والجاحظ لا يرضى هذا القول، ويقول: إنه جهل شديد، لا يصدر إلا ممن لا تحصيل لديه، لأن الله تعالى يخلق ما يشاء، وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه، كقيام الخيل والحمير، ومما يحقق ذلك أنه يلد مثله وقد شوهد ذلك وتحقق.
(1/378)
وفي حكمها وجهان: أحدهما التحريم، وبه جزم صاحب التنبيه وفي شرح المهذب للنووي أنها محرمة بلا خلاف، وأن بعضهم عدها من المتولد بين المأكول وغيره وقال بتحريمها القاضي أبو الخطاب من الحنابلة، والثاني الحل، وبه أفتى الشيخ تقي الدين بن أبي الدم الحموي، ونقله عن فتاوي القاضي حسين وذكر أبو الخطاب ما يوافق الحل فإنه حكى في فروعه قولين في أن الكركي والبط والزرافة، هل تفدى بشاة أو تفدى بالقيمة؟ والفداء لا يكون إلا للمأكول. قال ابن الرفعة: وهو المعتبر، كما أفتى به البغوي قال: ومنهم من أول لفظها وقال: ليست الزرافة بالفاء بل بالقاف. قال الشيخ تقي الدين السبكي: هذا التعليل ليس بشيء لأنه لا يعرف. واختار في الحلبيات حلها كما أفتى به ابن أبي الدم، ونقله عن القاضي حسين وتتمة التتمة قال: وما ادعاه النووي ممنوع وما ادعاه أبو الخطاب الحنبلي يجوز حمله على جنس يتقوى بنابه، وأما هذا الذي شاهدناه فلا وجه للتحريم فيه. وما برحت أسمع هذا بمصر وقال ابن أبي الدم، في شرح التنبيه: وما ذكره الشيخ في التنبيه غير مذكور في كتب المذهب.
وقد ذكر القاضي حسين أنها تحل ثم قال: قلت هذا مع أنها أقرب شبها بما يحل، وهو الإبل والبقر، وذلك يمل على حلها ويمكن أن يقال: إنما ذكر الشيخ ذلك اعتماداً على ما ذكر أهل اللغة أنها من السباع، وتسميتهم لها بذلك تقتضي عدم الحل، وإذا كان كذلك فقد ذكر صاحب كتاب العين أن الزرافة بفتح الزاي وضمها من السباع ويقال لها بالفارسية اشتركا ويلنك. وقد ذكر في موضع آخر أن الزرافة متولدة بين الناقة الوحشية والضبع، فيجيء الولد في خلقة الناقة والضبع، فإن كان الولد ذكراً عرض للأنثى من بقر الوحش فيلحقها، فتأتي بالزرافة. وسميت بذلك لأنها جمل وناقة، ولما كان كذلك وسمع الشيخ أنها من السباع اعتقد أنها من السباع حقيقة ولم يكن رآها فاستحل بذلك على تحريم أكلها انتهى. وقد تقدم أن الجاحظ لم يرتض هذا القول، وقال إن هذا القول جهل بين، وإن الزرافة نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمير.
قلت: وهذا الذي قاله الجاحظ معارض لما نقله ابن أبي الدم عن صاحب كتاب العين، من كونها متولدة بين مأكولين، وما تمسك به ابن أبي الدم من الشبه بالإبل والبقر شبه بعيد، لما يشاهد من طول يحيها وقصر رجليها، ولو كان الشبه البعيد كافياً لحل أكل الصرارة لشبهها بالجرادة ولجاز أكله، لأن خفه يشبه خف الجمل. وقد ذكر في شرح المهذب، أن بعضهم عد الزرافة من المتولد بين مأكول وغير مأكول، واستدل به على تحريمها وكلام الجاحظ ينفي هذا، ويقتضي الحل وهو المختار في الفتاوى الحلبيات كما سبق، وهو مذهب الإمام أحمد ومقتضى مذهب مالك، وقواعد الحنفية تقتضيه وإذا تعارضت الأقواد، وتساقط اعتبار مدلولها، رجعنا إلى الإباحة الأصلية، والتحقت هذه بما لا نص فيه بالتحريم والتحليل. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ذكرما لا نص فيه بالتحريم والتحليل في باب الواو في الورل.
ومن خواصها: أن لحمها غليظ سوداوي رديء الكيموس.
التعبير: الزرافة في المنام تدل على الأفة في المال، وربما دلت على المرأة الجليلة أو الجميلة أو الوقوف على الأخبار الغريبة من الجهة المقبلة منها، ولا خير فيها إن دخلت البلد من غير فائدة، فإنها تدل على الآفة في المال، وما تأنس من ذلك كان صديقاً أو زوجاً أو ولداً لا تؤمن غائلته. وربما تعبر بالمرأة التي لا تثبت مع الزوج، لأنها خالفت المركوبات في ظهورها، والله أعلم.
الزرياب: قال في كتاب منطق الطير: إنه أبو زريق. قال: وحكي أن رجلا خرج من بغداد، ومعه أربعمائة درهم لا يملك غيرها، فوجد في طريقه أفراخ زرياب فاشتراها بالمبلغ الذي كان معه، ثم رجع إلى بغداد، فلما أصبح فتح دكانه وعلق الأفراخ عليها، فهبت ريح باردة فماتت كلها إلا فرخاً واحداً، وكان أضعفها وأصغرها، فأيقن الرجل بالفقر ولم يزل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء ليله كله ويقول: يا غياث المستغيثين أغثني! فلما أصبح زال البرد، وجعل ذلك الفرخ ينفش ريشه ويصيح بصوت فصيح، يا غياث المستغيثين أغثني فاجتمع الناس عليه يستمعون صوته فاجتازت به أمة لأمير المؤمنين فاشترته بألف درهم انتهى.
(1/379)
فانظر كيف فعل الصدق مع الله تعالى، والإقبال بكنه الهمة في التضرع بين يديه وحضور القلب وعدم الالتفات إلى غيره من الغنى من الجهة الميؤوس منها! فما ظنك بمن ترك الأسباب والوسايط، وأقبل على الله تعالى إقبالا لا يشغله عنه شاغل، ولا يحجبه حاجب، لأن حجابه نفسه وقد فني عنها فهناك لذ الخطاب وطاب الشراب، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، وهو العزيز الوهاب.
الزغبة: دويبة تشبه الفأرة، قاله ابن سيده قال: وقد سمت العرب زغبة، وأشار بذلك إلى عيسى بن حماد البصري زغبة روى عن رشد بن سعد وعبد الله بن وهب والليث بن سعد وروى عنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومات سنة ثمان وأربعين ومائتين.
الزغلول: بضم الزاي فرخ الحمام ما دام يزق يقال: أزغل الطائر فرخه إذا زقه والزغلول أيضاً اللاهج بالرضاع من الغنم والإبل والزغلول أيضاً الخفيف من الرجال.
الزغيم: طائر وقيل بالراء غير المعجمة، قاله ابن سيده.
الزقة: طائر من طير الماء يمكث حتى يكاد يقبض عليه ثم يغوص في الماء فيخرج بعيداً قاله ابن سيده.
الزلال: بضم الزاي دود يتربى في الثلج، وهو منقط بصفرة يقرب من الإصبع، يأخذه الناس من أماكنه ليشربوا ما في جوفه لشدة برده، ولذلك يشبه الناس الماء البارد بالزلال، لكن في الصحاح ماء زلال أي عذب. وقال أبو الفرج العجلي، في شرح الوجيز: الماء الذي في دود الثلج طهور، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود. والمشهور على الألسنة أن الزلال هو الماء البارد قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث أمة وحده:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذباً زلالاً
وما أحسن قول أبي فراس بن حمدان واسمه الحارث:
قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا خان الزمان وساعدي
فرميت منك بضد ما أملته ... والمرء يشرق بالزلال البارد
وقال الآخر:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مراً به الماء الزلالا
وما أحسن قول وجيه الدولة أبي المطاع بن حمدان ويلقب بذي القرنين وكان شاعراً مجيداً ووفاته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة:
قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقال: أبصرته لو ما من ظمأ ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد
قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
ومن محاسن شعره:
ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحياناً فيبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاصرها ... والبحر في كل وقت طالع فيها
وقال آخر:
لا تعجبوا من بلا غلائله ... قد زر أزراره على القمرا
وهذا وما قبله يستشهد بهما على أن نور القمر يبلى ثياب الكتان كما قاله حذاق الحكماء، لا سيما إذا طرحت الثياب في الماء عند اجتماع النيرين الشمس والقمر، فإنها تبلى سريعاً في غير وقتها واجتماعهما من الخامس والعشرين إلى الثلاثين. ومن هنا يقال: ثوب حام إذا تفصد سريعاً وسببه ما ذكرناه، وقد أشار إلى ذلك الرئيس ابن سينا في أرجوزته بقوله:
لا تغسلن ثيابك الكتانا ... ولا تصد فيها كذا الحيتانا
عند اجتماع النيرين تبلى ... وذا صحيح فاتخذه أصلا
فينبغي الاحتراس على ثياب الكتان من نور القمر ومن غسلها عند اجتماع النيرين كما ذكرناه. الحكم: قال أبو الفرج العجلي، في شرح الوجيز: الماء الذي في دود الثلج طهور، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود والمشهور على الألسنة أن الزلال الماء البارد كما تقدم عن الجوهري وغيره.
الزماج: كرمان طائر كان يقف بالمدينة في الجاهلية على أطم ويقول شيئاً لا يفهم وقيل: كان يسقط في مربد، لبعض أهل المدينة، فيأكل ثمره فيرمونه فيقتلونه، ولم يأكل أحد من لحمه إلا مات. قال الشاعر:
أعلى العهد أصبحت أم عمرو ... ليت شعري أم غالها الزماج
قاله ابن سيده وغيره
(1/380)
الزمج: مثال الخرد طائر معروف يصيد به الملوك الطير وأهل البزدرة يعدونه من خفاف الجوارح، وذلك معروف في عينه وحركته وشدة وثبه، ويصفونه بالغدر وقلة الوفاء والألفة لكثافة طبعه، وهو يقبل التعليم لكن بعد بطء. ومن عادته أنه يصيد على وجه الأرض، والمحمود من خلقه أن يكون لونه أحمر وهو أحد نوعي العقاب. وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. قال الجواليقي: الزمج جنس من الطير يصاد به وقال أبو حاتم: إنه ذكر العقاب والجمع الزمامج. وقال الليث: الزمج طائر دون العقاب حمرته غالبة تسميه العجم دو برادران وترجمته أنه إذا عجز عن صيده أعانه أخوه على أخذه وحكمه: تحريم الأكل كسائر الجوارح.
الخواص: إدمان أكل لحم الزمج ينفع من خفقان القلب، ومرارته إذا جعلت في الأكحال نفعت من الغشاوة، وظلمة البصر نفعاً بليغاً، وزبله يزيل الكلف والنمش طلاء.
زمج الماء: وهو الطائر الذي يسمى بمصر النورس وهو أبيض في حد الحمام أو أكبر، يعلو في الجوثم يزج نفسه في الماء ويختلس منه السمك ولا يقع على الجيف ولا يأكل غير السمك. وحكمه: حل الأكل، لكن حكى الروياني عن الصيمري أن طير الماء الأبيض حرام، لخبث لحمه. قال الرافعي: والأصح أن جميع طير الماء حلال إلا اللقلق وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب اللام.
الزنبور: الدبر وهي تؤنث والزنابير لغة فيها وربما سميت النحلة زنبوراً، والجمع الزنابير. قال ابن خالويه، في كتاب ليس: ليس أحد سمعته يذكر كنية الزنبور إلا أبا عمر والزاهد فإنه قال: كنيته أبو علي وهو صنفان جبلي وسهلي: فالجبلي يأوي الجبال ويعشش في الشجر ولونه إلى السواد وبدء خلقه دود، ثم يصير كذلك، ويتخذ بيوتاً من تراب كبيوت النحل، ويجعل لبيته أربعة أبواب لمهاب الرياح الأربع، وله حمة يلسع بها، وغذاؤه من الثمار والأزهار. ويتميز ذكورها منه إناثها بكبر الجثة. والسهلي لونه أحمر ويتخذ عشه تحت الأرض، ويخرج منه التراب كما يفعل النمل ويختفي في الشتاء لأنه متى ظهر فيه هلك، فهو ينام من البرد طول الشتاء كالميتة ولا يدخر القوت للشتاء بخلاف النمل، فإذا جاء الربيع وقد صارت الزنابير من البرد وعدم القوت كالخشب اليابس، نفخ الله تعالى في تلك الجثث الحياة فتعيش مثل العام الأول، وذلك دأبها. ومن هذا النوع صنف مختلف اللون مستطيل الجسد، في طبعه الحرص والشره، يطلب المطابخ ويأكل ما فيها من اللحوم، ويطير منفرداً ويسكن بطن الأرض والجدران، وهذا الحيوان بأسره مقسوم من وسطه ولذلك لا يتنفس من جوفه البتة ومتى غمس في الدهن سكنت حركته، وإنما ذلك لضيق منافذه، فإذا طرح في الخل عاش وطار. قال الزمخشري في تفسير سورة الأعراف: قد يجعل المتوقع الذي لابد منه بمنزلة الواقع. ومنه ما روي أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري دخل على أبيه وهو يبكي، وهو إذ ذاك طفل، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة فقال حسان: يا بني قلت الشعر ورب الكعبة! أي ستقوله. فجعل المتوقع كالواقع. وما أحسن قول الأول :
وللزنبور والبازي جميعاً ... لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق
وقد أجاد الشيخ زهير الدين بن عسكر قاضي السلامية بقوله:
في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تغيير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ذممت فقل قيء الزنابير
مدحاً وذماً وما غيرت من صفة ... سحر البيان يرى الظلماء كالنور
وقال شرف الدولة بن منقذ ملغزاً في الزنبور والنحل:
ومغردين ترنما في مجلس ... فنفاهما لأذاهما الأقوام
هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيحمد ذا وذاك يلام
(1/381)
روى ابن أبي الدنيا، عن أبي المختار التيمي، قال: حدثني رجل قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنهيناه فلم ينته، فخرج يوماً لبعض حاجاته فاجتمع عليه الزنابير فاستغاث فأغثناه فحملت علينا فتركناه فما أقلعت عنه حتى قطعته قطعاً. وكذلك رواه ابن سبع في شفاء الصدور، وزاد: فحفرنا له قبراً فتصلبت الأرض فلم نقدر على حفرها فألقيناه على وجه الأرض، وألقينا عليه من ورق الشجرة والحجارة، وجلس رجل من أصحابنا يبول فوقع على ذكره زنبور من تلك الزنابير فلم يضره. فعلمنا أن تلك الزنابير كانت مأمورة. قال يحيى بن معين: كان يعلى بن منصور الرازي من كبار علماء بغداد، روى عن مالك والليث وغيرهما قال: فبينما هو يصلي يوماً إذ وقع عليه كور الزنابير، فما التفت ولا تحرك حتى أتم صلاته، فنظروا فإذا رأسه قد صارت هكذا من شدة الانتفاخ.
الحكم: يحرم أكله لاستخباثه، ويستحب قتله لما روى ابن عدي في ترجمة مسلمة بن علي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل زنبوراً اكتسب ثلاث حسنات " ، لكن يكره إحراق بيوتها بالنار قاله الخطابي في معالم السنن. وسئل الامام أحمد عن تدخين بيوت الزنابير فقال: إذا خشي أذاها فلا بأس به وهو أحب إلي من تحريقها. ولا يصح بيعها لأنها من الحشرات.
الخواص: إذا طرح الزنبور في الزيت مات، فإن طرح في الخل عاش كما تقدم. وفراخ الزنابير تؤخذ من أوكارها وتغلى في الزيت، ويطرح عليها سذاب وكراويا، وتؤكل تزيد في الباه وشهوة الجماع. وقال عبد الملك بن زهر: عصارة الملوخيا إذا طليت على لسعة الزنبور أبرأتها. التعبير: الزنبور في المنام عدو محارب، وربما دل على البناء والنقاب والمهندس وعلى قاطع الطريق وذي الكسب الحرام وعلى المطرب الخارج الضرب، وربما دلت رؤيته على أكل السموم أو شربها. وقيل: تدل رؤيته على رجل مخاصم مهيب ثابت في القتال، سفيه خبيث المأكل. والزنابير إذا دخلت مكاناً فإنها جنود لهم هيبة وسرعة وشجاعة، يحاربون الناس جهاراً. وقيل: الزنبور رجل مجادل بالباطل وهو من الممسوخ وقالت اليهود: الزنبور والغراب يدل على المقامرين وسفاكي الدماء، وقيل الزنابير في المنام قوم لا رحمة لهم والله أعلم.
الزندبيل: الفيل الكبير أنشد يحيى بن معين:
وجاءت قريش البطاح ... إلينا هم الدول الجاليه
يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضرس والشفة العاليه
الزندبيل كبير الفيلة وقال يحيى: أراد بالفيل والزندبيل عبد الملك وأبان ابني بشر بن مروان قتلاً مع ابن هبيرة الأصغر وأراد بذي الفرس والشفة العالية خالد بن مسلمة المخزومي المعروف بالفأفاء الكوفي، روى له مسلم والأربعة وروى عن الشعبي وطبقته، وروى عنه شعبة بن الحجاج والسفيانان وكان مرجئاً يبغض علياً رضي الله تعالى عنه، أخذ مع ابن هبيرة فقطع أبو جعفر المنصور لسانه ثم قتله.
الزهدم: زاي مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال مهمة مفتوحة الصقر ويقال فرخ البازي وبه سمي زهدم بن مضرب الجرمي، روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. والزهدمان أخوان من بني عبس زهدم وكردم وفيهما يقول قيس بن زهير:
جزاني الزهدمان جزاء سوء ... وكنت المرء يجزى بالكرامة
أبو زريق: القيق الآتي ذكره في باب القاف إن شاء الله تعالى. والزرياب المتقدم قبل بورقة، وهو ألوف للناس يقبل التعليم سريع الإدراك لما يعلم، وربما زاد على الببغاء وذلك أنه أنجب وإذا تعلم جاء بالحروف مبينة حتى لا يشك سامعه أنه إنسان وقد تقدم ذكره في الزرياب. وحكمه: حل الأكل لعدم استخباثه لكن قيل إنه متولد من الشقراق والغراب، فعلى هذا يتخرج فيه وجه بالتحريم ولم يذكروه.
أبو زيدان: ضرب من الطير.
أبو زياد: الحمار. قال الشاعر:
زياد لست أدري من أبوه ... ولكن الحمار أبو زياد
وأبو زياد أيضاً الذكر قال الشاعر:
تحاول أن تقيم أبا زياد ... ودون قيامه شيب الغراب
وهو الزهدباج أيضاً قاله في المرصع.
؟؟باب السين المهملة.
سابوط: دابة من دواب البحر قاله ابن سيده وغيره.
ساق حر: هو بالسين المهملة وبالقاف بينهما ألف وحر بالحاء والراء المهملتين الورشان وهو
(1/382)
ذكر القمارى لا يختلفون في ذلك قال الكميت :
تغريد ساق على ساق يجاوبها ... من الهواتف ذات الطوق والعطل
عنى بالأول الورشان، وبالثاني ساق الشجرة وقال حميد بن ثور الهلالي:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر نزهة وترنما
مطوقة غراء تسجع كلما ... دنا الصيف وانحال الربيع فأنجما
محلاة طوق لم تكن من تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما
تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة من نوحها متألما
إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلاً ومقوما
عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحاً ولم تثغر بمنطقها فما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربياً هاجه صوت أعجما
قال ابن سيده: إنما سمي ذكر القمارى ساق حر لحكاية صوته، فإنه يقول: ساق حر ساق حر، ولذلك لم يعرب ولو أعرب لصرف، فيقال ساق حران كان مضافاً وساق حران كان مركباً فتصرفه لأنه نكرة، فترك إعرابه دليل على أنه حكى الصوت بعينه وهو صياحه، وقد يضاف أوله إلى آخره، وذلك كقولهم خاز باز لأنه في اللفظ أشبه بباب دار انتهى. والنزهة الشوق، والترنم الغناء وهما مصدران واقعان موقع الحال من الضمير الفاعل في دعت ساق حر الواقع في موضع الصفة لحمامة وسيأتي في باب القاف إن شاء الله تعالى في القمري.
السالخ: الأسود من الحيات وقد تقدم ذكره في الأفعى في باب الهمزة.
سام أبرص: بتشديد الميم قال أهل اللغة: وهو من كبار الوزغ وهو معرفة إلا أنه تعريف جنس وهما اسمان جعلا واحداً، ويجوز فيه وجهان أحدهما أن تبنيهما على الفتح كخمسة عشر، والثاني أن تعرب الأول وتضيفه إلى الثاني مفتوحاً، لكونه لا ينصرف ولا ينثني ولا يجمع على هذا اللفظ، بل تقول في التثنية: هذان ساما أبرص وفي الجمع هؤلاء سوام أبرص، وإن شئت قلت: هؤلاء السوام ولا تذكر أبرص. وإن شئت قلت: هؤلاء البرصة والأبارص، ولا تذكر سام قال الشاعر:
والله لو كنت لهذا خالصاً ... ما كنت عبداً آكل الأبارصا
ولك على الثاني أن تقول: أبرصان وأبارص كما صنع الشاعر، فإنه جمع على الثاني إنما سمي هذا النوع بسام أبرص لأنه سم أي جعل الله فيه السم، وجعله أبرص. وسيأتي في باب الواو إن شاء الله تعالى، في ذكر الوزغ. ومن شأن هذا الحيوان، أنه إذا تمكن من الملح، تمرغ فيه فيصير مادة لتولد البرص.
وحكمه: تحريم الأكل لاستقذاره وللأمر بقتله، وعدم جواز بيعه كسائر الحيوانات التي لا منفعة لها والله أعلم.
الخواص: دمه إذا طلي به داء الثعلب أنبت الشعر، وكبده يسكن وجع الضرس، ولحمه يوضع على لسعة العقرب ينفعها، وجلده يوضع موضع الفتق يذهبه، وهو لا يدخل بيتاً فيه رائحة الزعفران.
التعبير: سام أبرص والعظاية في التأويل: فاسقان يمشيان بالنميمة. وقال أرطاميدورس: سام أبرص يدل على فقر وهم والله أعلم.
السانح: وما والاك ميامنه من ظبي أو طائر أو غيرهما تقول سنح الظبي لي سنوحاً إذا مر من مياسرك إلى ميامنك. والعرب تتيمن بالسانح وتتشاءم بالبارح. وفي المثل: من لي بالسانح بعد البارح، قال أبو عبيدة: سأل يونس رؤية عن السانح والبارح، فقال: السانح ما والاك ميامنة، والبارح ما والاك مياسرة، وكان ذلك يصد الناس عن مقاصدهم فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الطيرة وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر قال لبيد:
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع
والطيرة سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، في الطير واللقحة، في بابي الطاء المهملة واللام. السبد: بضم السين وفتح الباء طائر لين الريش، إذا قطرت عليه قطرة من ماء جرت عليه من لينه وجمعه سبدان قال الراجز:
أكل يوم عرشها مقيلي ... حتى ترى المئزرذا الفضول
مثل جناح السبد الغسيل
والعرب تشبه الفرس به إذا عرق قال طفيل العامري:
كأنه سبد بالماء مغسول
ولم أر لأصحابنا في حكمه كلاماً.
(1/383)
السبع: بضم الباء وإسكانها الحيوان المفترس والجمع أسبع وسباع وأرض مسبعة أي كثيرة السباع قرأ الحسن وابن حيوة وما أكل السبع بإسكان الباء، وهي لغة لأهل نجد قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه في عتيبة بن أبي لهب:
من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع
وقرأ ابن مسعود: وأكيلة السبع، وقرأ ابن عباس رضي تعالى عنهما: وأكيل السبع. قيل: سمي سبعاً لأنه يمكث في بطن أمه سبعة أشهر، ولا تلد الأنثى أكثر من سبعة أولاد، ولا ينزو الذكر على الأنثى إلا بعد سبع سنين من عمره. قال أبو عبد الله ياقوت الحموي، في كتاب المشترك، وضعاً في باب الغين المعجمة والباء الموحدة: الغابة موضع، بينه وبين المدينة أربعة أميال من ناحية الشام، له ذكر في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وفدت إليه، فيه السباع تسأله أن يفرض لها ما تأكله. وفي طبقات ابن سعد عن عبد الله بن حنطب قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة، إذ أقبل ذئب، فوقف بين يديه وعوى، فقال صلى الله عليه وسلم: " هذا وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئاً لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحرزتم منه، فما أخذ فهو رزقه " . فقالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا بشيء، فأومأ إليه بأصابعه الثلاث أي خالسهم فولى. وقد تقدم في باب الذال المعجمة في لفظ الذئب طرف من ذلك.
ووادي السباع بطريق الرقة مر به وائل بن قاسط على أسماء بنت رويم، فهم بها حين رآها منفردة في الخباء فقالت: والله لئن هممت بي لأدعون أسبعي! فقال: ما أرى في الوادي سواك! فصاحت ببنيها يا كلب يا ذئب يا فهد يا دب يا سرحان يا أسد يا سبع يا ضبع يا نمر فجاؤوا يتعادون بالسيوف، فقال: ما هذا إلا وادي السباع! وفي الصحيحين " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع " . وروى الترمذي والحاكم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، يحدثه بما أحدث أهله من بعده " . ثم قال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفاضل، وهو ثقة عند أهل الحديث وثقه يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي.
فائدة: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال: " وبما أفضلت السباع " خرجه الدارقطني قال السهيلي: يريد " نعم وبما أفضلت السباع " قال: ومثله قوله تعالى: " سبعة وثامنهم كلبهم " قالوا: إنها واو الثمانية وليس كذلك بل تدل على تصديق القائلين بأنهم سبعة لأنها عاطفة على كلا، مضمر مصدق تقديره نعم. وثامنهم كلبهم كما إذا قال قائل: زيد شاعر. فقلت له: وفقيه أيضاً أي نعم وفقيه أيضاً. وفي التنزيل " وارزق أهله من الثمرات " الآية قال الزمخشري: هذه الواو آذنت بأن الذين قالوا " سبعة وثامنهم كلبهم " قالوا ذلك عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كغيرهم انتهى. وحكى القشيري، في أوائل الرسالة، عن بنان الجمال، وكان عظيم الشأن صاحب كرامات، أنه ألقي بين يدي سبع فجعل السبع يشمه ولا يضره، فلما خرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع؟ قال: كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سور السبع.
(1/384)
قيل: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي رضي الله تعالى عنهما فعرض لهما سبع، فقال سفيان لشيبان: أما ترى هذا السبع؟ فقال: لا تخف، ثم أخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه، فقال سفيان: ما هذه الشهرة؟ فقال: لولا مخافة الشهرة لوضعت زادي على ظهره، حتى آتي مكة. وذكر الحافظ أبو نعيم في الحلية قال: كان شيبان الراعي إذا أجنب، وليس عنده ماء دعا ربه فتجيء سحابة فتظله، فيغتسل منها ثم تذهب، وكان إذا ذهب للجمعة، خط حول غنمه خطاً فإذا جاء وجدها على حالها لم تتحرك، وذكر أبو الفرج بن الجوزي وغيره أن الإمام أحمد والشافعي مرا يوماً بشيبان الراعي فقال الإمام أحمد: لأسألن هذا الراعي وأنظر جوابه، فقال له الشافعي: لا تتعرض له، فقال: لابد من ذلك، فقال له: يا شيبان ما تقول فيمن صلى أربع ركعات فسها في أربع سجدات ماذا يلزمه؟ قال له: على مذهبنا أم على مذهبكم. قال: أهما مذهبان؟ قال: نعم، أما عندكم فيلزمه أن يصلي ركعتين ويسجد للسهو، وأما عندنا فهذا رجل مقسم القلب يجب أن يعاقب قلبه حتى لا يعود. قال: فما تقول فيمن ملك أربعين شاة وحال عليها الحول ماذا يلزمه؟ قال: يلزمه عندكم شاة وأما عندنا فالعبد لا يملك شيئاً مع سيده. فغشي على الإمام أحمد فلما أفاق انصرفا انتهى. قلت: وقد ذهب جماعة من علماء الآخرة إلى من سها فسدت صلاته، أخذا بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للمرء من صلاته إلا ما عقله منها فعلا ولفظاً " . قالوا: ولا تفسد الصلاة إلا بترك واجب، وإلا فأي معنى للركوع والسجود، والمقصود منهما التعظيم والحضور لا الغفلة والذهول؟! وهو حسن، وإنما أفتت العلماء رضي الله تعالى عنهم بصحة الصلاة بذلك لعجزهم عن الاطلاع على أسرار القلوب، وسلموها إلى أربابها ليستفتوا نفوسهم، ليدفع الفقهاء كيد الشيطان وشقشقته عمن يقول لا إله إلا الله، وليقيموا الصلاة، ولم يفتوا بأن ذلك نافع لهم في الآخرة، ما لم يطابق عليه القلب اللسان مع الإخلاص لله والإخلاص لله واجب في سائر الأعمال. والاخلاص هو ما صفا عن الكدر، وخلص من الشوائب. قال تعالى: " من بين فرث ودم لبناً خالصاً " فكما أن خلوص اللبن من الفرث والدم، فكذلك إخلاص الأعمال من الرياء وحظوظ النفس جميعاً وقد تكلمت على ذلك كلاماً طويلا في الجوهر الفريد فلينظر هناك وبالله التوفيق. ورأيت في بعض المجاميع أن الشافعي رضي الله تعالى عنه كان يجلس إلى شيبان الراعي ويسأله عن مسائل فقيل له: مثلك يسأل هذا البدوي فيقول لهم: هذا وفق لما علمناه. وكان شيبان أمياً وإذا كان محل الأمي منهم من العلم هكذا فما ظنك بأئمتهم وقد كان الأئمة المجتهدون كالشافعي وغيره رضي الله تعالى عنهم يعترفون بوفور فضل علماء الباطن وقد قال الإمامان الجليلان الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما: إذا لم يكن العلماء أولياء الله تعالى، فليس لله ولي. وقد حكى غير واحد من الحفاظ أن أبا العباس بن شريح، كان إذا أعجب الحاضرين ما يبديه لهم من العلوم، يقول لهم: أتدرون من أين لي هذا؟ إنما حصل من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه. وكان من دعاء شيبان: يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا مبدئ يا معيد، يا فعالا لما يريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يزول، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك، أن تكفيني شر الظالمين أجمعين. وقد ذكر بعضهم قصيدة ذكر فيها أسماء جماعة من الأولياء قدس الله أسرارهم فمنها:
شيبان قد كان راعي ... وسر سره ما اختفى
فاجهد وخل الدعاوى ... إن كان لك شيء بان
وفي الرسالة، في باب كرامات الأولياء، أن سهل بن عبد الله التستري، كان في داره بيت تسميه الناس بيت السباع، كانت السباع تجيء إليه فيدخلهم ذلك البيت، ويضيفهم ويطعمهم اللحم ثم يخلي سبيلهم.
(1/385)
وفي كفاية المعتقد في ذكر ما زوي لهم من الأرض من غير حركة، وهو أفضل من الطيران في الهواء، والمشي على الماء، عن سهل بن عبد الله التستري، قال: توضأت يوم جمعة ومضيت إلى الجامع، وذلك في أيام البداية، فوجدته قد امتلأ بالناس، وقد هم الخطيب أن يرقى المنبر، فأسأت الأدب ولم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول فجلست، وإذا عن يميني شاب حسن المنظر طيب الرائحة عليه أطمار الصوف، فلما نظر إلي قال: كيف نجدك يا سهل قلت: بخير أصلحك الله وبقيت مفكراً في معرفته لي وأنا لم أعرفه، فبينما أنا كذلك إذ أخذني حرقان بول فكربني، فبقيت على وجل خوفاً أن أتخطى رقاب الناس، وإن جلست لم يكن لي صلاة فالتفت إلي وقال: يا سهل أخذك حرقان بول؟ فقلت: أجل فنزع حرامه عن منكبيه فغشاني به، ثم قال: اقض حاجتك وأسرع لتلحق الصلاة. قال: فأغمي علي فلما فتحت عيني، وإذا بباب مفتوح فسمعت قائلا يقول: لج الباب يرحمك الله، فولجت فإذا أنا بقصر مشيد عالي البنيان شامخ الأركان، وإذا بنخلة قائمة وإلى جانبها مطهرة مملوءة أحلى من الشهد ومنزل لإراقة الماء، ومنشفة معلقة وسواك، فحللت لباسي وأرقت الماء ثم اغتسلت وتنشفت بالمنشفة فسمعت منادياً: يا سهل إن كنت قضيت أربك فقل: نعم، فقلت: نعم. فنزع الحرام عني فإذا أنا جالس مكاني ولم يشعر بي أحد. فبقيت مفكراً في نفسي وأنا مكذب نفسي فيما جرى فقامت الصلاة فصليت ولم يكن لي شغل إلا الفتى لأعرفه، فلما فرغت تتبعت أثره، فإذا به قد دخل إلى درب، فالتفت إلي وقال: يا سهل كأنك ما أيقنت بما رأيت؟ قلت: كلا، قال: فلج الباب يرحمك الله، فنظرت الباب بعينه فولجت القصر فنظرت المطهرة والنخلة والحال بعينه، فمسحت عيني وفتحتهما، فلم أجد الفتى ولا القصر.
وإنما ذكرت هذه الحكاية لأنها من جملة العجائب عند غير هذه الطائفة، ولا يكاد يؤمن بها كثير من الناس ولها احتمالات منها: أنه يحتمل أنه نقل من مكانه لما أغمي عليه إلى حيث شاء الله من غير شعور منه، ثم أعيد إلى مكانه لطفأ من الله تعالى وكرامة لأوليائه.
قال شيخنا اليافعي رحمه الله: ومن المحكي عن سهل رضي الله تعالى عنه أيضاً، أن أمير خراسان يعقوب بن الليث أصابته علة أعيت الأطباء، فقيل له: في ولايتك رجل صالح يقال له سهل بن عبد الله ولو استحضرته ليدعو لك رجونا لك العافية فأحضره وسأله الدعاء، فقال: كيف يستجاب دعائي لك وأنت مقيم على الظلم. فنوى يعقوب التوبة والرجوع عن المظالم وحسن السيرة في الرعية وأطلق من في سجنه من المظلومين فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة وفرج عنه، فنهض كأنما نشط من عقال وعوفي من ساعته، فعرض على سهل مالا جزيلا فأبى قبوله فلما رجع إلى تستر قيل له بأثناء الطريق: لو قبلت المال الذي عرض عليك، وفرقته على الفقراء؟. فنظر إلى الحصباء فإذا هي جواهر، فقال: خذوا ما أردتم. ثم قال: من أعطى مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ ونظير ذلك من قلب الأعيان ما روي عن الشيخ عيسى الهتار وهو بكسر الهاء وتخفيف التاء المثناة فوق، أنه مر على امرأة بغي فقال لها: بعد العشاء آتيك ففرحت بذلك وتزينت، فلما كان بعد العشاء دخل عليها البيت فصلى ركعتين ثم خرج. فقالت: أراك خرجت؟ قال: حصل المقصود، فورد عليها وأراد أزعجها عما كانت عليه فخرجت بعد الشيخ، وتابت على يده فزوجها بعض الفقراء. وقال: اعملوا الوليمة عصيدة ولا تشتروا لها إداماً ففعلوا ذلك وأحضروه، وحضر الفقراء والشيخ كالمنتظر لشيء يؤتى به فوصل الخبر إلى أمير كان رفيقاً لتلك المرأة فأخرج قارورتين مملوأتين خمراً وأرسل بهما إلى الشيخ وأراد بذلك الاستهزاء، وقال للرسول: قل للشيخ: قد سرني ما سمعت، وبلغني أن ما عندكم إدام، فخذوا هذا فائتدموا به. فلما أقبل الرسول قال له الشيخ: أبطأت. ثم تناول إحداهما فخضها ثم صب منها عسلا مصفى، ثم فعل كذلك بالأخرى وصب منها سمناً عربياً، وقال للرسول: اجلس فكل فأكل فطعم سمناً وعسلا لم ير مثلهما طعماً ولوناً وريحاً. فرجع الرسول وأخبر الأمير بذلك فجاء الأمير فأكل. وتحير مما رأى وتاب على يد الشيخ.
ويشبه هذا ما حكي عن بعضهم، أنه قال: بينما أنا أسير في فلاة من الأرض، إذا برجل
(1/386)
يدور بشجرة شوك، ويأكل منها رطباً جنياً فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: تقدم فكل، قال: فتقدمت إلى الشجرة، فصرت كلما أخذت منها رطباً عاد شوكاً، فتبسم الرجل وقال: هيهات لو أطعته في الخلوات أطعمك الرطب في الفلوات. وحكاياتهم في مثل هذا كثيرة، وإنما نبهت على قطرة من بحار عميقة، وعلى الجملة فالدنيا تتصور لهم في صورة عجوز تخدمهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريباً في هذا الباب، والرجوع في ذلك كله إلى أصل يجب الإيمان به، وهو أن الله على كل شيء قدير، وليس الخرق للعوائد بمستحيل في العقل والله التوفيق.
وحكى: عن الشيخ أبي الغيث اليمني رضي الله تعالى عنه، أنه خرج يوماً يحتطب فبينما هو يجمع الحطب إذ جاء السبع وافترس حماره، فقال له: وعزة المعبود ما أحمل حطبي إلا على ظهرك، فخضع له السبع فحمل الحطب على ظهره، وساقه إلى البلد، ثم حط عنه وخلاه. ونقل أن شعوانة رزقت ولداً فربته أحسن تربية، فلما كبر ونشأ قال لها: يا أماه سألتك بالله إلا ما وهبتني لله فقالت له: يا بني أنه لا يصلح أن يهدى للملوك إلا أهل الأدب والتقى وأنت يا ولدي غمر لا تعرف ما يراد بك ولم يأن لك ذلك فأمسك عنها فلما كان ذات يوم، خرج إلى الجبل ليحتطب، ومعه دابة، فنزل عنها وربطها، وذهب فجمع الحطب ورجع، فوجد السبع قد افترسها، فجعل يده في رقبة السبع، وقال له: يا كلب الله تأكل دابتي وحق سيدي لأحملنك الحطب كما تعديت على دابتي، فحمل على ظهره الحطب وهو طائع لأمره حتى وصل به إلى دار أمه فقرع عليها الباب ففتحت له وقالت لما رأت ذلك: يا بني أما الآن فقد صلحت لخدمة الملك اذهب لله عز وجل فودعها وذهب.
روى صاحب مناقب الأبرار عن شاه الكرماني أنه خرج إلى الصيد وهو ملك كرمان، فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا شاب راكب على سبع وحوله سباع كثير فلما رأته السباع، ابتدرت نحوه فنحاها الشاب عنه فبينما هو كذلك، إذ أقبلت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب ودفع باقيه إلى شاه فشرب وقال: ما شربت شيئاً ألذ منه ولا أعذب، ثم غابت العجوز فقال الشاب: هذه الدنيا وكلها الله تعالى بخدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إلى حين يخطر ببالي، فعجب شاه من ذلك، فقال له: أبلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها: يا دنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. ثم وعظه وعظاً حسناً، فكان ذلك سبب توبته.
وفي الإحياء في عجائب القلب عن إبراهيم الرقي قال: قصدت أبا الخير الديلمي التيناني مسلماً عليه فصلى صلاة المغرب، ولم يقرأ الفاتحة مستوياً فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي فلما أصبح الصباح خرجت إلى الطهارة فقصحني السبع فعدت إليه وقلت: إن السبع قد قصدني فخرج وصاح على الأسد وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لأضيافي؟ فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال: أنتم اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، ونحن اشتغلنا بتقويم الباطن فخافنا الأسد وقد أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين بن عبد الله بن أسد اليافعي لنفسه:
هم الأسد ما الأسد الأسود تهابهم ... وما النمر ما أظفار فهد ونابه
وما الرمي بالنشاب ما الطعن بالقنا ... وما الضرب بالماضي الكمي ما ذبابه
لهم هميم للقاطعات قواطع ... لهم قلب أعيان المراد انقلابه
لهم كل شيء طائع ومسخر ... فلا قط يعصيهم بل الطوع دائه
من الله خافوا لا سواه فخافهم ... سواه جمادات الورى ودوابه
لقد شمروا في نيل كل عزيزة ... ومكرمة مما يطول حسابه
إلى أن جنوا ثمر الهوى بعد ما جنى ... عليهم وصار الحب يطول عذباً عذابه
(1/387)
وفي الخبر قيل: أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري، معناه خفني لا وصفاً في المخوفة من العزة والعظمة والكبرياء والجبروت والقهر وشدة البطش، ونفوذ الأمر، كما تخاف السبع الضاري لشدة بدنه وعبوسة وجهه، وشبوك أنيابه، وقوة براثنه، وجراءة قلبه، وسرعة غضبه، وبغتات وثبه، وفظيع بطشه، ودواعي ضراوته، لا أجلب عليه شراً ولا عصيت له أمراً، فيا أخي خف الله حق خوفه، واترك السوى فمن خاف الله حق خوفه خافه كل شيء، ومن أطاع الله حق طاعته أطاعه كل شيء.
وحكمه: تقدم في باب الهمزة لكن يكره ركوب السباع لما روى ابن علي في ترجمة إسماعيل بن عياش عن بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب السباع " . ولا يصح بيع السباع التي لا تنفع وقيل يجوز بيعها لأجل جلودها وأما التي تنفع كالفهد والفيل والقرد فيجوز بيعه.
السبنتي والسبندي: النمر الجريء والأنثى سبنداة قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ناحت الجن على عمر رضي الله تعالى عنه قبل أن يموت بثلاثة أيام فقالت:
أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسوق
جزى الله خيراً من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق
قضيت أموراً ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق
وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق
المطرق الحنق الذي أرخى عينيه إلى الأرض، وقد يمد السبنتي. ونسب الجوهري هذه الأبيات إلى الشماخ، وقال في الاستيعاب: لما مات عمر رضي الله تعالى عنه نحل الناس هذه الأبيات إلى الشماخ بن ضرار ولأخويه، وكانوا أخوة ثلاثة كلهم شعراء، وسيأتي ذكر النمر في باب النون إن شاء الله تعالى.
السبيطر: بفتح السين وفتح الباء الموحدة والطاء المهملة، بينهما ياء مثناة من تحت، وبالراء المهملة في آخره، مثل العميثل: طائر طويل العنق جداً يرى أبداً في الماء الضحضاح، ويكنى بأبي العيزار. كذا قاله الجوهري وابن الأثير، والظاهر أنهما أرادا به مالكاً الحزين، وقال في المحكم: الكركي يكنى أبا العيزار وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر العميثل في باب السين المهملة.
السحلة: كالهمزة الأرنب الصغيرة التي قد ارتفعت عن الخرنق وفارقت أمها.
السحلية: بضم السين العظاية. قال ابن الصلاخ: هي دويبة أكبر من الوزغ وقد عد في الروضة العظاية من نوع الوزغ، وقال: إنها محرمة، وقال ابن قتيبة وصاحب الكفاية: وذكر العظاية يسمى العضر فوط بفتح العين المهملة وتسكين الضاد المعجمة وبالفاء والواو والطاء في آخره. وذكر الجاحظ أن العضر فوط بلغة قيس هي العظاية وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة قول الأزهري: هي دويبة ملساء تعدو وتتردد كثيراً تشبه سام أبرص إلا أنها لا تؤذي وهي أحسن منه.
السحا: بفتح السين والحاء المهملتين الخفاش الواحدة سحاة مفتوحتان مقصورتان قاله النضر بن شميل وقد تقدم لفظ الخفاش في باب الخاء المعجمة.
سحنون: بفتح السين وضمها طائر حديد الذهن يكون بالمغرب، يسمونه سحنوناً لحدة ذهنه وذكائه وبه سمي سنون بن سعيد التنوخي القيرواني وهو لقب فرد واسمه عبد السلام، وهو تلميذ ابن القاسم وهو مصنف المدونة وكان قبل ذلك كتبها أسد بن الفرات عن ابن القاسم غير مرتبة ثم بخل بها ابن الفرات على سحنون فدعا عليه ابن القاسم أن لا ينفع الله بها ولا به وكذلك كان، فهي متروكة والعمل على مدونة سحنون ووفاته في شهر رجب سنة أربعين ومائتين وولد في شهر رمضان سنة ستين ومائة رحمة الله عليه.
السخلة: ولد الشاة من الضأن أو المعز ذكراً كان أو أنثى والجمع سخل وسخلة وسخال قال الشاعر:
فللموت تغدو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدور تبنى المساكن
وهذه لام العاقبة كقول الآخر:
أحوالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها
ولم يبنوها للخراب ولكن إليها مآلها كقول الآخر:
فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده
(1/388)
وقال تعالى: " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً " وقال تعالى: " ربنا إنك آتيت فرعون وملاة زينة وأموالا في الحياة الدنيا " الآية.
فائدة: قال أبو زيد: يقال لأولاد الغنم ساعة وضعها من الضأن والمعز جميعاً ذكراً كانت أو أنثى سخلة، ثم هي بهمة بفتح الباء الموحدة للذكر والأنثى جميعاً وجمعها بهم، فإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها فما كان من أولاد المعز فهو جفار واحدها جفر، والأنثى جفرة فإذا رعى وقوي فهو عريض وعتود وجمعهما عرضان وعتدان، وهو في ذلك كله جدي والأنثى عناق ما لم يأت عليها الحول وجمعها عنوق. الذكر تيس إذا أتى عليه الحول، والأنثى عنز ثم تجزع في السنة الثانية، فالذكر جذع والأنثى جذعة. روى مالك عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: " اعتد عليهم في الزكاة بالسخلة " . وبه استدل الشافعي وغيره على أن ما نتج من النصاب يزكى بحول الأصل، لأن الحول إنما اعتبر للنماء والسخال في نفسها نماء، حتى لو نتجت قبل الحول بلحظة تزكى بحول النصاب، وإن ماتت الأمهات كلها قبل انقضاء حولها، على الأصح. وقيل: يشترط بقاء نصاب من الأمهات، وقيل: يشترط بقاء شيء منها ولو واحدة. وروى الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي، من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسخلة جرباء قد أخرجها أهلها فقال: " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على أهلها " . وروى البزار في مسنده عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بدمنة قوم، فيها سخلة ميتة، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما لأهلها فيها حاجة " ؟ فقالوا: يا نبي الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها! قال صلى الله عليه وسلم " فوالله للدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها فلا الفينها أهلكت أحدكم " . وفي سيرة ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما خرج هو وأصحابه إلى غزوة بدر، لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجموا عنده خبراً، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم فسلم عليه. ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له سلمة بن سلامة بن وقش، وكان غلاماً حدثاً: لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك بذلك! ففي بطنها منك سخلة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه " فخشيت على الرجل ثم أعرض عن سلمة. ورواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بزيادة وهو أنه قال لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أهل البادية وهو متوجه إلى بدر، لقيه بالروحاء فسأله القوم عن خبر الناس، فلم يجدوا عنده خبراً، فقالوا له: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم فسلم عليه ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه. فقال له سلمة بن سلامة بن وقش، وكان غلاماً حدثاً: لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك! نزوت عليها ففي بطنها سخلة منك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه " . فخشيت على الرجل ثم أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلمه كلمه واحدة حتى قفلوا واستقبلهم المسلمون بالروحاء يهنونهم فقال سلمة: يا رسول الله ما الذي يهنئونك والله إن رأينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعتقلة فنحرناها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل قوم فراسة، وإنما يعرفها الأشراف " . ثم قال: هذا صحيح مرسل.
ويتصل بذكر الفراسة ما رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عند أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه. والمرأة التي رأت موسى عليه السلام، فقالت لأبيها: يا أبت استأجره. وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. قال الحاكم: فرضي الله تعالى عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم بهذا الإسناد الصحيح.
(1/389)
فرع: السخلة المرباة بلبن كلبة، لها حكم الجلالة، يكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح في الشرح الكبير، والروضة والمنهاج. وبه جزم الروياني والعراقيون. وقال أبو إسحاق المروزي والقفال: كراهة تحريم، ورجحه الإمام والغزالي والبغوي والرافعي في المحرر. والجلالة هي التي تأكل العذرة والنجاسات سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج أو الأرز أو السمك، أو غير ذلك من المأكول.
وقد تقدم في باب الدال المهملة، في الدجاج، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياماً ثم يأكلها بعد ذلك " . وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس " .
قال الحاكم: صحيح الإسناد وقال البيهقي: ليس بالقوي. ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير في لحمها، فلا تحريم ولا كراهة. واختلفوا فيما يناط به الحرمة والكراهة، فنقل الرافعي عن تتمة التتمة، أنه إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة بل بالرائحة فإن كان يوجد في عرقها أو فيها أدنى ريح النجاسة وإن قل فالموضع موضع النهي، وإلا فلا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن موضع النهي، ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة فأما إذا كانت الرائحة توجد يسيرة، فلا اعتبار بها. والصحيح الأول إلحاقاً لها بالتغير اليسير بالنجاسة في المياه فإن علفت الجلالة علفاً طاهراً مدة حتى طاب لحمها، وزالت النجاسة زالت الكراهة. ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن بل المعتبر زوال الرائحة بأي وجه كان. قال الرافعي، رحمه الله: وعن بعض العلماء تقدير العلف في الإبل والبقر بأربعين يوماً، وفي الغنم بسبعة أيام وفي الدجاج بثلاثة أيام. قال: وهو محمول عندنا على الغالب. فإن لم تعلف لم يزل المنع بغسل اللحم بعد الذبح ولا بطبخه وشيه وتجفيفه في الهواء، وإن زالت الرائحة وكذا إن زالت الرائحة، بمرور الزمان عند صاحب التهذيب. وقيل: بخلافه وكما يمنع لحمها يمنع لبنها وبيضها ويكره الركوب عليها من غير حائل بين الراكب وبينها ويطهر جلدها بالدباغ والأصح أنه كاللحم ولا يطهر بالذكاة عند القائل بالتنجيس.
وسئل: سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة، فقال: لا بأس بأكله. قال الطبري: العلماء مجمعون على أن الجدي إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيرة، لا يكون حراماً، ولا خلاف في أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة. وقال غيره: المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك في الخروف إذا ذبح بفوق ولا شم رائحة فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس. كذا قاله أبو الحسن علي بن خلف بن بطال القرطبي في شرح البخاري. ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة وهو أحد شيوخ أبي عمر بن عبد البر رحمة الله تعالى عليه.
السرحان: بكسر السين الذئب. والجمع سراح وسراحين، والأنثى سرحانة بالهاء، والجمع كالجمع والسرحان الأسد بلغة هذيل قال أبو المثلم يرثي ميتاً:
هباط أودية حمال ألوية ... شهاد أندية سرحان فتيان
وقال سيبويه: نون سرحان زائدة وهو فعلان والجمع سراحين. قال الكسائي: والأنثى سرحانة. حكى القزويني، عن بعض الرعاة، أنه نزل وادياً بغنمه فسلب سرحان شاة من غنمه فقام ورفع صوته ونادى: يا عامر الوالي، فسمع صوتاً: يا سرحان رد عليه شاته، فجاء الذئب بالشاة وتركها وذهب، وقد تقدم حكمه وخواصه وتعبيره.
الأمثال: قالوا: " سقط العشاء به على سرحان " . قال أبو عبيدة: أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء، فسقط على ذئب فأكله الذئب. وقال الأصمعي: أصله أن دابة خرجت تطلب العشاء فلقيها ذئب فأكلها. وقال ابن الأعرابي: أصله أن رجلا يقال له سرحان، كان بطلا تتقيه الناس، فقال رجل يوماً: والله لأرعين إبلي في هذا الوادي ولا أخاف سرحان بن هزلة فأتى إليه فقتله وأخذ إبله وقال:
أبلغ نصيحة أن راعي إبلها ... سقط العشاء به على سرحان
سقط العشاء به على متنمر ... طلق اليدين معاود لطعان
يضرب في طلب الحاجة تؤدي صاحبها إلى التلف.
(1/390)
السرطان: بفتح السين والراء المهملتين وبالنون في آخره، حيوان معروف ويسمى عقرب الماء، وكنيته أبو بحر وهو من خلق الماء وعيش في البر أيضاً وهو جيد المشي سريع العدو، ذو فكين ومخاليب وأظفار حداد، كثير الأسنان صلب الظهر من رآه رأى حيواناً بلا رأس ولا ذنب، عيناه في كتفيه وفمه في صدره وفكاه مشقوقان من الجانبين، وله ثماني أرجل، وهو يمشي على جانب واحد، ويستنشق الماء والهواء معاً، ويسلخ جلده في السنة ست مرات، ويتخذ لجحره بابين: أحدهما شارع في الماء، والآخر إلى اليبس، فإذا سلخ جلده سد عليه ما يلي الماء خوفاً على نفسه من سباع السمك، وترك ما يلي اليبس مفتوحاً ليصل إليه الريح فتجف رطوبته ويشتد، فإذا اشتد فتح ما يلي الماء وطلب معاشه. وقال ارسطاطاليس في النعوت: وزعموا أنه إذا وجد سرطان ميت في حفرة مستلقياً على ظهره في قرية أو أرض تأمن تلك البقعة من الآفات السماوية، وإذا علق على الأشجار يكثر ثمرها وفي وصفه قال الشاعر:
في سرطان البحر أعجوبة ... ظاهرة للخلق لا تخفى
مستضعف المشية لكنه ... أبطش من جاراته كفا
يسفر للناظر عن جملة ... متى مشى قدرها نصفا
ويقال: إن ببحر الصين سرطانات متى خرجت إلى البر استحجرت، والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض، والسرطان لا يتخلق بتوالد ولا نتاج، إنما يتخلق في الصدف ثم يخرج منه ويتولد.
وفي الحلية عن أبي الخير الديلمي أنه قال: كنت عند خير النساج فجاءته امرأة وطلبت أن ينسج لها منديلا، وقالت له: كم الأجرة؟ فقال لها: درهمان فقالت: ما معي الساعة شيء وغداً أتيك بها إن شاء الله تعالى، فقال لها: إذا أتيتني ولم تريني فارمي بهما في الدجلة فإني إذا رجعت أخذتها منها إن شاء الله تعالى، فقالت: حباً وكرامة. قال أبو الخير: فجاءت المرأة من الغد وخير غائب، فقعدت ساعة تنتظره ثم قامت وألقت خرقة في الدجلة، فيهما الدرهمان، فإذا سرطان قد تعلق بالخرقة، وغاص في الماء. ثم جاء خير بعد ساعة، ففتح باب حانوته وجلس على الشط يتوضأ، وإذا بسرطان خرج من الماء يسعى نحوه والخرقة على ظهره، فلما قرب من الشيخ أخذها وذهب السرطان إلى حال سبيله. فقلت له: رأيت كذا وكذا، فقال: أحب أن لا تبوح بهذا في حياتي فأجبته إلى ذلك.
الحكم: يحرم أكله لاستخبائه كالصدف قال الرافعي: ولما فيه من الضرر، وفي قول أنه يحل أكله، وهو مذهب مالك رحمة الله تعالى عليه.
الخواص: كل السرطان ينفع وجع الظهر ويصلبه. قال في النعوت: من علق عليه رأس سرطان لم ينم إذا كان القمر محترقاً، فإن كان غير محترق نام، وإن أحرق السرطان وحشي به البواسير كيف كانت أبرأها، وإن علقت رجله على شجرة مثمرة سقط ثمرها من غير علة ولحمه نافع للمسلولين جداً. وإذا وضع السرطان على الجراحات أخرج النصل وينفع من لسع الحيات والعقارب.
التعبير: السرطان في المنام تدل رؤيته على رجل كثير الكيد، لكثرة سلاحه، عظيم الهمة بعيد المأخذ عسر الصحبة، ومن رأى أنه أكل لحم سرطان في منامه، فإنه يصيب خيراً من أرض بعيدة. وقال جاماسب: لحم السرطان في الرؤيا مال حرام والله أعلم.
السرعوب: بضم السين وسكون الراء وبالعين المهملة ابن عرس ويقال له: النمس قاله في كفاية المتحفظ.
السرفوت: بفتح السين والراء المهملتين وضم الفاء دويبة تعشش في كور الزجاج في حال اضطرامه، وتبيض فيه وتفرخ، ولا تعمل بيتها إلا في موضع النار المستمرة الدائمة. كذا قاله ابن خلكان، في ترجمة يعقوب بن صابر المنجنيقي. وهذه الدويبة تشارك السمندل في هذا الوصف كما سيأتي في موضعه.
السرفة: بضم السين واسكان الراء المهملتين وبالفاء الأرضة قال ابن السكيت: إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر، تتخذ لنفسها بيتاً مربعاً من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها على مثال الناموس، ثم تدخل فيه وتموت. ويقال سرفت السرفة، وتسرفها بالكسر سرفاً إذا أكلت ورقها، فهي شجرة مسروفة انتهى.
(1/391)
وفي الحديث أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لرجل: إذا أتيت إلى منى، وانتهيت إلى موضع كذا وكذا، فإن هناك شجرة لم تعبل ولم تجرد ولم تسرف ولم تسرح، قد نزل تحتها سبعون نبياً فأنزل تحتها. ومعنى لم تعبل لم يسقط ورقها، ولم تجرد لم يصبها الجراد، ولم تسرف لم تصبها السرفة، ولم تسرح لم يصبها السرح أي الإبل والغنم السارحة.
الحكم: يحرم أكلها لأنها من الحشرات.
الأمثال: قالوا: أصنع من سرفة " وقد تقدم الكلام عليها في باب الهمزة.
السرمان: دويبة كالحجر والسرمان أيضاً ضرب من الزنابير أصفر وأسود ومجزع.
السروة: الجرادة أول ما تكون وهي دودة وأصله الهمز والسروة لغة فيها.
السرماح: الجراد. قاله ابن سيده.
السعدانة: الحمامة.
السعلاة: أخبث الغيلان وكذلك السعلاء تمد وتقصر، والجمع السعالي. واستسعلت المرأة، أي صارت سعلاة أي صارت صخابة وبذية، قال الشاعر:
لقد رأيت عجباً مذ أمسا ... عجائزاً مثل السعالي خمسا
يأكلن ما أصنع همسا همسا ... لا ترك الله لهن ضرسا
وأنشد أبو عمر:
يا قبح الله بني السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات
ليسوا أعفاء ولا أكيات
قلب السين تاء وهي لغة بعض العرب.
قال الجاحظ: يقال إن عمرو بن يربوع كان متولداً من السعلاة والإنسان. قال: وذكروا أن جرهماً كان من نتاج الملائكة وبنات آدم عليه السلام. قال: وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبط إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت فوقع بعض الملائكة على بعض بنات آدم عليه السلام فولدت جرهماً ولذلك قال شاعرهم:
لا هم أن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا
قال: ومن هذا الضرب كانت بلقيس ملكة سبا. وكذلك كان ذو القرنين، كانت أمه آدمية وأبوه من الملائكة ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا ينادي رجلا: يا ذا القرنين، قال: أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟ انتهى.
والحق في ذلك أن الملائكة معصومون من الصغائر والكبائر كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قاله القاضي عياض وغيره. وأما ما ذكروه من أن جرهماً كان من نتاج الملائكة وبنات آدم، وكذلك ذو القرنين وبلقيس فممنوع، واستدلالهم بقصة هاروت وماروت ليس بشيء، فإنها لم تثبت على الوجه الذي أوردوه، بل قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هما رجلان ساحران كانا ببابل. وقال الحسن: كانا علجين يحكمان بين الناس ويعلمان الناس السحر ولم يكونا من الملائكة لأن الملائكة لا يعلمون السحر. وقرأ ابن عباس والحسن البصري وما أنزل على الملكين بكسر اللام. وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف في الكلب.
وقد اختلف في ذي القرنين ونسبه واسمه، فقال صاحب ابتلاء الأخيار: اسم ذي القرنين الاسكندر، قال: وكان أبوه أعلم أهل الأرض بعلم النجوم، ولم يراقب أحد الفلك ما راقبه، وكان قد مد الله تعالى له في الأجل فقال ذات ليلة لزوجته: قد قتلني السهر، فدعيني أرقد ساعة وانظري إلى السماء، فإذا رأيت قد طلع في هذا المكان نجم وأشار بيده إلى موضع طلوعه فنبهيني حتى أطأك فتعلقي بولد يعيش إلى آخر الدهر، وكانت أختها تسمع كلامه ثم نام أبو الاسكندر فجعلت أخت زوجته تراقب النجم فلما طلع النجم أعلمت زوجها بالقصة فوطئها فعلقت منه بالخضر فكان الخضر بن خالد الاسكندر ووزيره فلما استيقظ أبو الاسكندر، رأى النجم قد نزل في غير البرج الذي كان يرقبه، فقال لزوجته: لم لم تنبهيني؟ فقالت: استحييت والله فقال لها: أما تعلمين أني أراقب هذا النجم منذ أربعين سنة والله لقد ضيعت عمري في غير شيء. ولكن الساعة يطلع في أثره نجم فأطؤك فتعلقين بولد يملك قرني الشمس فما لبث أن طلع، فواقعها فعلقت بالاسكندر، وولد الاسكندر وابن خالته الخضر في ليلة واحدة. ثم إن الاسكندر فتح الله عليه، بتمكينه في الأرض، وفتح البلاد وكان من أمره ما كان.
(1/392)
وروي عن وهب بن منبه أنه قال: كان ذو القرنين رجلا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الاسكندر وكان عبداً صالحاً، فلما بلغ أشده، قال الله تعالى: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة وهم أصناف منهم أمتان بينهما طول الأرض ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض وأمم في وسط الأرض فقال ذو القرنين: إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي ندبتني إليها بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ وكيف لي أن أفقه لغاتهم؟ وبأي سمع أسمع قولهم؟ وبأي بصر أنقدهم؟ وبأي حجة أخاصمهم. وبأي عقل أعقل عنهم. وبأي قلب وحكمة أدبر أمرهم؟ وبأي قسط أعدل بينهم؟ وبأي معرفة أفصل بينهم؟ وبأي يد أسطو عليهم؟ وبأي رجل أطؤهم. وبأي طاقة أحصيهم. وبأي جند أقاتلهم؟ وبأي رفق أتألفهم؟ وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ويقوى عليهم ويطيقهم، وأنت الرؤوف الرحيم الذي لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا يحملها إلا طاقتها. قال الله عز وجل: إني سأطوقك وأحملك وأشرح لك صدرك، فتسمع كل شيء، وأقوي لك فهمك فتفقه كل شيء، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء، وأمد بصرك فتنقد كل شيء، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأقوي لك قلبك فلا يروعك شيء، واحفظ لك عقلك فلا يعزب عنك شيء، وأبسط لك ما بين يديك فتسطو فوق كل شيء، وأشد لك وطأتك فتهد كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يهولنك شيء، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما جنداً من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك، وذلك قوله تعالى: " وآتيناه من كل شيء سبباً " وقال ابن هشام: ذو القرنين هو الصعب بن ذي مرثد الحميري من ولد وائل بن حمير. وقال ابن إسحاق: اسمه مرزبان بن مردويه، كذا وقع في السيرة له، وذكر أنه الاسكندر.
وقيل: إنه رجل من ولد يونان بن يافث، واسمه هرمس ويقال له هرديس، والظاهر من علم الأخبار والسير أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم ويقال إنه الذي قضى لإبراهيم حين خاصم إليه في بئر السبع بالشام، والثاني كان قريباً من عهد عيسى عليه السلام وقيل إنه افريدون الذي قتل الملك الطاغي الذي كان على عهد إبراهيم أو قبله بزمن.
واختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين، فقال بعضهم: لأنه ملك فارس والروم وقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه آخذ بقرني الشمس، وكان تأويل رؤياه أنه طاف المشرق والمغرب، وقيل: إنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن، ثم دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر، وقيل: إنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل: لأنه كان إذا حارب قاتل بيديه وركابيه جميعاً، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه كان له ذؤابتان حسنتان والذؤابة تسمى قرناً. قال الراعي:
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف لبرد ماء الحشرج
(1/393)
وقيل: لأنه أعطى علمي الظاهر والباطن. وهو رجل من الاسكندرية يقال له اسكندر بن فيلبش الرومي وكان في الفترة بعد عيسى عليه الصلاة والسلام. قال مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران: نمرود وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس وهو المهدي. واختلف في نبوته فقال بعضهم: كان نبياً لقوله تعالى: " قلنا يا ذا القرنين " وقال آخرون: كان ملكاً صالحاً عادلا، ولعله الأصح. فالقائلون بنبوته قالوا: إن الملك الذي كان ينزل عليه، اسمه رقيائيل وهو ملك الأرض الذي يطوي الأرض يوم القيامة وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة. قاله ابن أبي خيثمة. قال السهيلي: وهذا يشاكل توكله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها، كما أن قصة خالد بن سنان العبسي وهو نبي بين عيسى ومحمد عليهما السلام، في تسخير النار، مشاكلة لحال الملك الموكل به، وهو مالك خازن النار. وسيأتي ذكر خالد ونبوته في باب العين المهملة في العنقاء، إن شاء الله تعالى. قال الجاحظ: وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى: " وشاركهم في الأموال والأولاد " وهذا ظاهر، وذلك أن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب السفاد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس، ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء، قال تعالى: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " ولو كان الجان لا يفتض الآدميات، ولم يكن ذلك في تركيبه لما قال الله تعالى هذا القول.
وذكروا أن الواق واق نتاج من بعض النباتات وبعض الحيوانات، وقال السهيلي: السعلاة ما يتراءى للناس بالنهار، والغول ما يتراءى للناس بالليل. وقال القزويني: السعلاة نوع من المتشيطنة مغايرة للغول. قال عبيد بن أيوب:
وساحرة عيني لو أن عينها ... رأت ما ألاقيه من الهول جنت
أبيت وسعلاة وغول بقفرة ... إذا الليل وارى، الجن فيه أرنت
قال: وأكثر ما توجد السعلاة في الغياض وهي إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر. قال: وربما اصطادها الذئب بالليل فأكلها، وإذا افترسها ترفع صوتها وتقول: أدركوني فإن الذئب قد أكلني، وربما تقول: من يخلصني ومعي ألف دينار يأخذها والقوم يعرفون أنه كلام السعلاة فلا يخلصها أحد فيأكلها الذئب.
السفنج: بضم السين واسكان الفاء وضم النون وبالجيم في آخره، قال أبو عمر: وهو الظليم الخفيف وهو ملحق بالخماسي بتشديد الحرف الثالث منه، كذا قاله الجوهري، والسفنج أيضاً طائر كثير الاستنان قاله في العباب.
السقب: ولد الناقة أو ساعة يولد والجمع أسقب وسقوب وسقبان والأنثى سقبة وأمها مسقب ومسقاب.
الأمثال: قالوا: أذل من السقبان بين الحلائب، أرادوا بالحلائب جمع حلوبة وهي التي تحلب.
السقر: قال القزويني: إنه من الجوارح في حجم الشاهين، إلا أن رجليه غليظتان جداً ولا يعيش إلا في البلاد الباردة، ويوجد في بلاد الترك كثيراً، وهو إذا أرسل على الطير أشرف عليها، ويطير حولها على شكل دائرة، فإذا رجع إلى المكان الذي ابتدأ منه تبقى الطيور كلها في وسط الدائرة، لا يخرج منها واحد ولو كانت ألفاً وهو يقف عليها وينزل يسيراً يسيراً وتنزل الطيور بنزوله حتى تلتصق بالتراب فيأخذها البزادرة فلا يفلت منها شيء أصلا.
(1/394)
السقنقور: نوعان: هندي ومصري، ومنه ما يتولد في بحر القلزم، وهو البحر الذي غرق فيه فرعون وهو عند عقبة الحاج. ويتولد أيضاً ببلاد الحبشة وهو يغتذي بالسمك في الماء وبالقطا في البر يسترطه كالحيات، أنثاه تبيض عشرين بيضة تدفنها في الرمل فيكون ذلك حضناً لها وللأنثى فرجان، وللذكر ذكران كالضب. قاله التميمي. وقال ارسطو: السقنقور حيوان بحري وربما تولد في البحر في مواضع الصواعق. ومن عجيب أمره أنه إذا عض إنساناً وسبقه الإنسان إلى الماء، واغتسل منه مات السقنقور، وإن سبق السقنقور إلى الماء مات الإنسان. وبينه وبين الحية غداوة حتى إذا ظفر أحدهما بصاحبه قتله. والفرق بينه وبين الورل من وجوه منها أن الورل بري لا يأوي إلا البراري، والسقنقور لا يأوي إلا بالقرب من الماء أو فيه، ومنها أن جلد السقنقور ألين وأنعم من جلد الورل، ومنها أن ظهر الورل أصفر وأغبر، وظهر السقنقور مدبج بصفرة وسواد. والمختار من هذا الحيوان الذكر فإنه أفضل وأبلغ في النفع المنسوب إليه من أمر الباه قياساً وتجربة، بل كاد أن يكون هو المخصوص بذلك والمختار من أعضائه ما يلي ذنبه من ظهره، فهو أبلغ نفعاً وهذا الحيوان نحو ذراعين طولا ونصف ذراع عرضاً قال في المفردات: لا يعرف اليوم في عصرنا السقنقور لا الديار المصرية إلا ببلاد الفيوم، ومنها يجلب إلى القاهرة لمن عني بطلبه، وإنما يصاد في أيام الشتاء لأنه إذا اشتد عليه البرد يخرج إلى البر فحينئذ يصاد.
الحكم: يحل أكله لأنه سمك ويحتمل أن يأتي فيه وجه بالحرمة، لأن له شبهين في البر أحدهما حرام وهو الورل، والآخر يؤكل وهو الضب تغليباً للتحريم. وأما الذي تقدم في باب الهمزة فهو حرام لأنه متولد من التمساح كما تقدم فهو حرام كأصله.
الخواص: لحم السقنقور الهندي ما دام طرياً فهو حار رطب في الدرجة الثانية، وأما مملوحه المجفف فإنه أشد حرارة وأقل رطوبة لا سيما إذا مضت عليه بعد تعليقه مدة طويلة ولذلك صار لا يوافق استعماله أصحاب الأمزجة الحارة اليابسة، بل أرباب الأمزجة الباردة الرطبة ولحمه إذا أكل منه اثنان بينهما عداوة، زالت وصارا متحابين. وخاصية لحمه وشحمه إنهاض شهوة الجماع وتقوية الانعاظ والنفع من الأمراض الباردة التي بالعصب وإذا استعمل بمفرده كان أقوى فعلا من أن يخلط بغيره من الأدوية، والشربة منه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب مزاج المستعمل له وسنه ووقته وبلده. وقال ارسطو: لحم السقنقور الهندي، إذا طبخ باسفيذاج، نفخ اللحم وأسمن، ولحمه يذهب وجع الصلب ووجع الكليتين ويدر المني، وخرزته الوسطى إذا علقت على صلب إنسان، هيجت الإحليل وزادت الجماع.
التعبير: هو في الرؤيا يدل على الإمام العالم الذي يهتدى به في الظلمات فإن جلده يولد ولحمه ينعش القوة ويثير حرارتها والله أعلم.
السلحفاة البرية: بفتح اللام، واحدة السلاحف. قاله أبو عبيدة وحكى الرواسي: سلحفية مثل بلهنية، وهي بالهاء عند الكافة وعند ابن عبدوس: السلحفا، بغير هاء. وذكرها يقال له غيلم، وهذا الحيوان يبيض في البر فما نزل منه في البحر كان لجأة، وما استمر في البركان سلحفاة، ويعظم الصنفان جداً إلى أن يصير كل واحد منهما حمل جمل. وإذا أراد الذكر السفاد، والأنثى لا تطيعه، يأتي الذكر بحشيشة في فيه، من خاصيتها أن صاحبها يكون مقبولا، فعند ذلك تطاوعه وهذه الحشيشة لا يعرفها إلا القليل من الناس. وهي إذا باضت صرفت همتها إلى بيضها بالنظر إليه ولا تزال كذلك حتى يخلق الله تعالى الولد منها، إذ ليس لها أن محضنه حتى يكمل بحرارتها، لأن أسفلها صلب لا حرارة فيه وربما تقبض السلحفاة على ذنب الحية فتقطع رأسها وتمضغ من ذنبها والحية تضرب بنفسها على ظهر السلحفاة وعلى الأرض حتى تموت. ولها حيلة عجيبة في التوصل إلى صيدها، وذلك أنها تصعد من الماء فتتمرغ في التراب، وتأتي موضعاً قد سقط الطير عليه لشرب الماء فتختفي عليه لكدورة لونها، التي اكتسبتها من الماء والتراب، فتصيد منها ما يكون لها قوتاً وتدخل به الماء ليموت فتأكله. ولذكرها ذكران وللأنثى فرجان، والذكر يطيل المكث في السفاد، والسلحفاة مولعة بأكل الحيات، فإذا أكلتها بعدها سعترا. والترس الذي على ظهرها وقاية لها وقد أجاد الشاعر حيث قال في وصفها:
(1/395)
لحا الله ذات فم أخرس ... تطيل من السعي وسواسها
تكب على ظهرها ترسها ... وتظهر من جلدها رأسها
إذ الحذر أقلق احشاءها ... وضيق بالخوف أنفاسها
تضم إلى نحرها كفها ... وتدخل في جلدها رأسها
الحكم: حكى البغوي في حلها وجهين: وصحح الرافعي التحريم لاستخباثها، لأن غالب أكلها الحيات. وقال ابن حزم: البرية والبحرية حلال، وكذلك بيضها لقوله تعالى: " كلوا مما في الأرض حلالا طيباً " مع قوله: " وقد فضل لكم ما حرم عليكم " ولم يفصل لنا تحريم السلحفاة فهي حلال. قال: وكذلك يحل اليربوع والسرطان والجراذين وأم حبين والورل والطير كله. قال: وقد روينا عن عطاء، أنه قال بإباحة أكل السلحفاة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نهى المحرم عن قتل الرخمة وجعل فيها الجزاء وقد قال أبو زيد المروزي من أصحابنا، بعدم تحريم المخاط والبزاق والمني ونحوها وكأنه استغنى بنفرة الطباع عنها فلم يزجر عنها.
وفي الأمثال: قالوا: أبلد من سلحفاة.
الخواص: ذكر صاحب الفلاحة والقزويني أن البرد، إذا كثر وقوعه على الأرض، وأضر بذلك المكان، تؤخذ سلحفاة وتقلب فيه على ظهرها بحيث تبقى قوائمها شائلة نحو السماء، فإن البرد لا يضر ذلك المكان وإذا لطخت الأيدي والأقدام بدمها، نفع من وجه المفاصل، وإذا أديم التمسح بدمها نفع من الكزاز والتشنج، وأكل لحمها يفعل ذلك. وإذا جفف دمها وسحق وطلي به على مسرجة فمن أسرجها ضرط وهو سر عجيب مجرب. وأي عضو من الإنسان حصل له وجع، يعلق عليه نظيره من أعضائها فإن الوجع يسكن بإذن الله تعالى. وطرف ذنب الذكر منها وقت هيجانه من علقه عليه هيج الباه، وإذا اتخذ من ظهرها مكبة وغطى بها رأس قدر، لم يغل ما دامت عليه.
التعبير: السلحفاة في المنام امرأة تزين وتتعطر وتعرض نفسها على الرجل. وقيل: إنها تعبر بقاضي القضاة، لأنها أعلم ما في البحر. وقيل: السلحفاة رجل عالم فمن رأى سلحفاة تكرم في مكان فإن العلماء يكرمون هناك. ومن رأى أنه أكل لحم سلحفاة استفاد علماً، وقالت النصارى: إنه ينال مالا وعلماً والله أعلم.
السلحفاة البحرية: اللجأة وستأتي في باب اللام إن شاء الله تعالى. قال الجوهري: وزعموا أن ابنة جندي وضعت قلادتها على سلحفاة فانسابت في البحر، فقالت: يا قوم نزاف نزاف، لم يبق في البحر غير غراف! وهو جمع غرفة من الماء، والسلحفاة البحرية جلدها الذبل الذي يصنع منه الأمشاط وخاصية التسريح بمشط الذبل اذهاب الصيبان من الشعر. وإذا أحرق الذبل وعجن رماده ببياض البيض، وطلي به شقاق الكعبين والأصابع نفعه. وقيل: الذبل جلد السلحفاة الهندية.
فائدة: كان للنبي صلى الله عليه وسلم مشط من العاج والعاج الذبل، وهو شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية يتخذ منه الأمشاط والأساور. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر ثوبان رضي الله تعالى عنه أن يشتري لفاطمة رضي الله تعالى عنها سوارين من عاج " أما العاج الذي هو عظم الفيل، فنجس عند الشافعي، وطاهر عند أبي حنيفة، وعند مالك يطهر بصقله فيجوز التسريح بمشط العاج، وهو الذبل وعليه يحمل ما وقع للنووي في شرح المهذب من جواز التسريح به. فمراده بالعاج الذبل لا العاج الذي هو ناب الفيل.
السلفان: بكسر السين أولاد الحجل الواحدة سلف مثل صرد وصردان قال أبو عمر: ولم يسمع سلفة للأنثى ولو قيل سلفة كما قيل سلكة لواحدة السلكان لكان جيداً.
السلق: بالكسر الذئب والأنثى سلقة وربما قيل للمرأة السلطة سلقة ومنه قوله تعالى: " فإذا جاء الخوف سلقوكم بألسنة حداد " أي بسطوا ألسنتهم فيكم. والسالقة الرافعة صوتها عند المصيبة.
السلك: فرخ القطا وقيل: فرخ الحجل، والأنثى سلكة، والجمع سلكان، مثل صرد وصردان. وقيل واحدته سلكانة. وقد ضربت العرب المثل بسليك بن سلكة في العدو وهو تميمي من بني سعد وسلكة أمه، وكانت سوداء وكان يقال له سليك المقانب قال الشاعر:
إلى الهول أمضى من سليك المقانب.
وهو أحد أغربة العرب الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة.
السلكوت: طائر قاله في المحكم في رباعي السين.
السلوى: قال ابن سيده: إنه طائر أبيض مثل السماني واحدته سلوة والسلوى العسل قال خالد بن زهير الهذلي:
(1/396)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق