مفردات زرقاء تروي تاريخ أجداد ناطقاً بالأصالة
الأمثال البحرية.. ذاكرة ابن الإمارات وجاره الأزلي
المصدر:
- أبوظبي - الإمارات اليوم
التاريخ:
تجسد الأمثال البحرية حكاية البحر الخالدة، التي كتبت فصولها بأروع معاني التضحية لآباء صارعوا لجج البحر وأهواله، للبحث عن لقمة العيش، مشخصين بأجسادهم التي كستها أشعة الشمس لون المعاناة والتضحيات التي سطرها الآباء والأجداد.
لعب البحر دوراً فاعلاً وحيوياً في الإمارات، وكان له دور اجتماعي وثقافي واقتصادي لا يستهان به، إذ كان اهتمام كل أهل الإمارات ممن عاشوا على شواطئه، ينصب على الأعمال البحرية، سواء أكانت أعمال غوص للبحث عن اللؤلؤ، أو صيد الأسماك، أو الإبحار إلى البلاد المجاورة بغرض التجارة.
وارتبط أبناء الإمارات ارتباطاً وثيقاً بالبحر منذ القدم، الأمر الذي جعلهم يتعلقون بحياة السواحل تعلقاً كبيراً، إذ اتصلت هذه الحياة بنشأتهم وتكوينهم، وبالتالي مست حياتهم وجدانياً حتى أصبح هناك تعايش وتناغم أورث كثيراً من الأمثال البحرية التي شاعت وأصبح لها صيت يتناقل في ما بينهم.
من الأمثال التي لفت إليها المواطن علي بن مطر الشامسي:
•• «إذا كان هواك من الصدر كيف تعلي»، والصدر مقدمة المركب، وتعلي أي تندفع وتبحر للأمام، فإذ كان الهواء يواجه المركب من مقدمته أي أنه يسير عكس أو ضد الرياح، فإن النوخذة يجد صعوبة في الانطلاق بالمركب، بمعنى إذا اجتمعت الظروف ضد إنسان فإنها تحول دون تحقيقه لما يريد إنجازه من عمل.
•• «اللي يطلب العالي يصبر على الراش»، والعالي أي الجلوس في مقدمة السفينة، والراش رذاذ الماء المتصاعد نتيجة لاندفاع السفينة.
•• «البحر له ناس لفيحه.. يعرفون التوح من اليره مب كل من تاح سريحه.. قال هذا خيط وبيره»، واللفيحه الصيادون الذين يجيدون صيد الأسماك بطريقة اللفح وهي رمي الشباك في أعماق البحر، والتوح رمي ما يتعلق بمعدات البحر وحسن استعمالها، وسريحه تعني خيط من القماش الضعيف جداً الذي لا يعتمد عليه في مهن وأدوات البحر او الصيد لعدم قوتها، والخيط هو الذي يستعمل لصيد الأسماك، معنى المثل أن الإنسان الذي ليس له خبرة في أي مجال من المجالات ينطبق عليه المثل من تصرفاته وتماديه في الأشياء التي لا يفهمها، ويؤكد المثل أن لكل مهنة ناسها ورجالها المهرة المتمرسين، ويدعو إلى ضرورة الإلمام بأساسيات المهن وأصولها الدقيقة قبل ممارستها.
•• «المسافر له في البحر طريق»، مثل بحري يدل على أن الله تعالى يسهل الأمور ويذللها لمن يشاء فعليك ألا تيأس، وجد في الطلب كالمسافر في البحر رغم أهواله يجعل الله فيه طريقاً سالماً للمسافر.
حكم الأجداد
•• «طبعان ويهوس على تريجه»، وطبعان هو الشخص الذي يتعرض مركبه للغرق، ويهوس يعني يضغط ويدوس، وتريج معناها حافة المركب، فإذا غطس جزء من المركب فمن الخطأ أن نحاول الضغط على هذا الجزء بالذات، وبالتالي النتيجة إغراق (المحمل) أكثر، يقال المثل لمن وقع في محنة، ويأتي بحماقة أخرى تزيد من مصيبته والشدة التي وقع بها.
•• «عق الخيط وعلى الله الصيد»، عق يعني ارم، والخيط هو سنارة السمك. والمعنى أن على الإنسان السعى ومن الله التوفيق.
•• «لوث البحر وايد.. ولوث البحر»، أي ما يقذفه البحر من بضائع فاسدة من السفن الغارقة، وايد، أي كثير. ومعنى المثل أن خيرات الدنيا كثيرة والرزق متوافر لمن عمل واجتهد، فعلى الإنسان ألا ييأس مهما بدا له أن الرزق شحيح.
•• «خيرك في البحر ما يضيع أو سو خير وعقه بحر»، سوي أو سو هي فعل أمر في اللهجة الشعبية بمعنى اعمل الخير، وعلى فاعله ألا ينتظر كلمة الشكر أو العرفان، لأن الذي يجزي على الأعمال الطيبة هو الله سبحانه وتعالى.
•• «الغرقان يتعلق بالشبو»، يعني أن المحتاج يتعلق بكل طريقة يستطيع من خلالها تحقيق غايته وهدفه ولو كانت سبباً ضعيفاً، فالشبو نوع من أنواع الطحالب، وهو لا ينقذ غريقاً، ولكن كناية عن التعلق بكل الأسباب للنجاة.
•• «فرمن وجامعة» هذا المثل يقال في حالة التدليل على نقيضين، فمثلاً إذا قيل إن فلاناً وفلاناً مثل الجامعة والفرمن؛ فهذا يعني أنهما مختلفان تماماً، ولا يتطابقان. وأصل المثل هو أن القفية أو الجامعة، وهي البكرة التي يسحب عليها حبل الفرمن، تعملان بطريقه عكسية لا تلتقيان فيها؛ فإذا نزل الفرمن ارتفعت الجامعة، والعكس صحيح.
|
المواطن علي بن مطر الشامسي (80 عاماً)، أحد ربان البحر نشأ في بيئة بحرية صرفة كل من كان فيها له علاقة بالبحر، والده نوخذة غوص، أما هو فمارس العمل بالبحر منذ نعومة أظافره، ولديه كنز من الذكريات الجميلة يكشف من خلالها عن معظم الأمثال البحرية، وهو من رجال البحر، ومن عائلة عاشت بين أمواجه. ويؤكد الشامسي أن «ارتباط الإماراتي بالبحر يشكل علاقة حميمية تأخذ أبعاداً وجودية وحضارية وتاريخية عميقة، حتى إنه ليس من باب المبالغة أن نقول إن الإنسان الإماراتي يمثل جزءاً من ذاكرة البحر، هذه العلاقة الجدلية بين ابن الإمارات وجاره الأزلي البحر تجلت في الكثير من حياة ابن الإمارات التي تخضبت بالأزرق وحاورت المطلق، ونشأت جراء ذلك عادات وطقوس وتقاليد اجتماعية وثقافية وإبداعية خصبة».
ويقدم رؤية معمّقة حول مفردات البحر وتجلياتها في الأمثال البحرية المعاصرة، إذ يعرج بالحديث إلى دلالات هذه المفردات الزرقاء وحضورها القوي في الأمثال البحرية الإماراتية.
ويؤكد الشامسي أن المثل الشعبي البحري يمثل سلوك مجتمع الساحل ومعظم الشعوب الساحلية في العالم تتداول الأمثال البحرية في أحاديثها اليومية، فهي كرواية تمثل جزءاً من آدابهم وقيمهم التي نقلوها عن أسلافهم، وشعب الإمارات أحد الشعوب التي تقطن على سواحل جميلة وذات جغرافية اقتصادية وميزات فريدة، بمعنى أن الأمثال لابد أن تكون قد تأثرت بالحياة البحرية والملاحية.
ويضيف الشامسي: «أهل الساحل يغازلون عبر أمثالهم البحر ومكنوناته وسفن ومهن، كانت سبباً في نشوء تلك العلاقة الحميمة مع البحر وأهم الأمثال التي تعبّر عن تلك الخصوصية المثل القائل: (وش لك بالبحر وأهواله وأرزاق الله على السيف)، الذي يعبّر عن القناعة والرضا بما قسم الله، وتجنب الطمع والمخاطرة سعياً وراء الرزق في عمق البحر». ويوضح أن «هذا المثل شاع في النصف الثاني من القرن الماضي حينما بدأ استخراج النفط في المنطقة فاتجه معظم الأهالي للعمل في حقول النفط والصناعات البتروكيماوية، بينما ظل بعض الناس متمسكين بالعمل في البحر، بما فيه من خطورة ومشقة وعناء بحثاً عن لؤلؤ ثمين أو صيد وفير، فشاع هذا المثل خصوصاً في نعت هذه الفئة من أهل الساحل».
ويتابع الشامسي: «المهن البحرية قديمة ومتجذرة في وجدان سكان السواحل يمارسونها بحب وإصرار عجيبين، وبقدر ما هي مهن تحتاج إلى خبرة وجسارة تحتاج إلى صبر يتحلى به الغواص أو الصياد قبل أن يهم هو ورفاقه برحلة الغوص أو الصيد، سعياً إلى البحث عن لقمة العيش غير مبالين بلفحة الشمس التي تلهب سمرة جباههم، ورحلة الغوص لدى أهالي الإمارات تمثل قصة أزلية ورحلة عشق مع عالم البحر وأسراره ومكنوناته».
وفي ما يخص الأمثال البحرية المتعلقة بمهنة بالغوص يقول الشامسي: «عليك بأوله يا شوله.. أفلح من باع أول الموسم»، موضحاً أن «المثل يعبّر عن المهارة والذكاء في ما يخص تجارة اللؤلؤ، إذ إن المتعاملين في هذه التجارة يحبذون السرعة في بيع اللؤلؤ وتجنب التأخير والتردد، ويقال هذا المثل لحث وإقناع ملاك ونواخذة السفن، من أجل بيع اللآلئ بمجرد وصولهم للبر، أو في أقرب مكان يتم فيه عرضها على التجار، والمراد من المثل أنه يجب على الإنسان أن ينتهز الفرص القائمة والمتاحة أمامه قبل ضياعها، والندم عليها في ما بعد».
وتطرق الشامسي إلى أمثال الغوص الأخرى: «قيس قبل ما تغيص»، أي تعرّف إلى عمق البحر قبل أن تغوص فيه، ومصدر هذا المثل مهنة الغوص وصيد اللؤلؤ، فالبحارة يعرفون عمق مغاصات وهيرات الغوص، ويصنفون لآلئها حسب عمق كل منها، مشيراً إلى أن معنى المثل أن على الإنسان أن يحتاط في كل الأمور قبل الشروع في أي عمل.
وأضاف: «الغوص قطعة من جهنم، وكانوا يقولون (الغوص غص بريجه لو فيه روبيات) أي أن الغوص غصة وهم على البحارة ولو كان مصدراً للمال (الروبيات)».
ومن الأمثال أيضاً «حصباه فيها دقة»، والحصباه اللؤلؤة الكبيرة ودقة أي ضربة أو خدش أو تشوه ناتج عن وجود نتوءات على سطح اللؤلؤة.. فالدقة أو النتوءات تشوه اللؤلؤة الكبيرة، وتجعل ثمنها ضئيلاً، فلو لم يكن فيها هذا العيب لكانت اللؤلؤة ذات قيمة عالية، ويقال المثل عندما يكون إنسان محبوباً من الجميع، وله قبول طيب في المجتمع، ومع هذا فهو به خصلة ذميمة تطغى على تلك الصفات الحميدة.
أما، والكلام للشامسي: «السكران ينبر عن رأسه» والسكران تقال للشخص الذي يغطس في الماء وينقطع نفسه وينبر، أي يحرك الحبل المتصل بالسيب (الشخص الموكل إليه جره من الأعماق عند انتهاء عملية البحث عن المحار التي تستغرق نحو ثلاث دقائق)، موضحاً أن «الإنسان يشعر بمشكلته أكثر من غيره، ويتصرف وفق الظروف التي تواجهه».
ومن أمثال الغوص الأخرى التي ذكرها الشامسي: «البحر سبعة والبلد سبعة»، والبلد هو الأداة التي يقاس بها عمق البحر، وهو عبارة عن قطعة من الحبل مربوط في نهايتها خشب أو رصاص، ويقال أيضاً البحر ستة أو خمسة، والمفروض أن يكون طول حبل البلد كافياً لقياس أي عمق، فإذا كان طول البلد مساوياً لعمق البحر، فإنه يصعب معرفة قياس عمق بحر قد يزيد على طول البلد، لافتاً إلى أن هذا المثل يقال في حالة كون ما يحصل عليه المرء من دخل لا يكاد يسمح بتوفير أي جزء منه، كذلك فإن المثل يستعمل للدلالة على ضيق ذات اليد.
بينما مثل «اللي ما يقيس قبل لا يغوص ما ينفعه الغوص عقب الغرق»، فمعناه أن الإنسان الذي لا يحسب عمق البحر، ولا يقدر المسافة قبل أن يغوص فيه لابد أن يغرق وعندها لن ينتفع بحاصلة الغوص اللؤلؤ، لأنه سيكون قد فقد حياته، مشيراً إلى أن المعنى الضمني للمثل هو أن الشخص الذي يقتحم الأخطار ولا يحسب لها حساباً ولا يقدر الأمور حق تقديرها فهو هالك لا مـحالة.
وأفاد الشامسي بأن «الشيص في الغبة حلو»، والغبة هو البحر العميق، والمقصود به عرض البحر، والشيص هو رطب مر الطعم وغير مستساغ، ولكن الشيص يكون له قيمته في عرض البحر أيام الغوص حيث يعمل البحارة في مغاصات اللؤلؤ وهم محرومون من أي نوع من أنواع الرطب، بمعنى أن الشيء مهما كان بسيطاً ورديئاً له قيمة وقت الضرورة وعند الحاجة إليه».
وتطرق علي بن مطر الشامسي للأمثال البحرية التي قيلت في الجلافة (مهنة صناعة السفن) والمحامل (السفن) وأجزائها ومنها: «لا يغرك حمر حيابة.. ترى ليحانه شريش، ولا يغرك أي لا يخدعك، وحمر حيابة، جسد السفينة أحمر اللون، والشريش أخشاب رديئة النوع ورخيصة الثمن»، موضحاً أن «المقصود بهذا المثل هو (المحمل)، أي السفينة الكبيرة، وكانت سفن الغوص تدهن قبل مد الغوص بالصل (وهو نوع من أنواع الدهانات القديمة) فتبدو أخشابها حمراء تلمع وتسر الناظر، وكأنها قوية وجديدة، وقد كانت السفن الكبيرة قوية ومصنوعة من خشب الساج الثمين غير أن بعض المحامل كانت تصنع من ألواح خشبية رخيصة أشهرها الشريش ثم تدهن لتبدو حمراء لامعة تشبه الأخشاب الثمينة تماماً، لكن موج البحر كان دائماً الحكم الأول والفيصل، لأن الثمين كما يقال (سعره فيه)»، منوّهاً إلى أن هذا المثل متداول ومعروف لدى أهل البحر، والخشب أي المحامل الكبيرة التي تشق عباب البحر بحثاً عن اللؤلؤ، ويقال المثل لوصف الأشياء التي تبدو ثمينة وجميلة المظهر؛ لكنها في الحقيقة رخيصة ورديئة من الداخل. أما مثل «مسمر مع الماية، ومسمر المركب» أي يسير مع التيار دون هدف، والماية المقصود بها أمواج البحر، فيضرب في الشخص الذي يمشي على طريق أو درب لا يعرفه، مثله مثل المركب يسير مع التيار دون شراع.
ويواصل الشامسي حديثه عن الأمثال التي قيلت في السفن والشراع قائلاً: «كل هوا وله شراع»، وهوا يعني الهواء، والمقصود به الرياح، فالسفن تستعمل أشرعة مختلفة الأحجام، طبقاً لاتجاه وسرعة الريح، والمعنى أن كل موقف له أسلوب معين يتماشى مع طبيعته، وهو ينطبق مع القول لكل مقام مقال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق