اللهجة العامية هي الحامل الحقيقي لتراث الشعوب
غالبا ما ينظر إلى اللهجة العامية بنظرة دونية، على أنها غير قادرة على أن تحوي فكرا أو أدبا راقيا أو أن تكون حمالة فنية، وهذا ما فندته الكثير من الأعمال الإبداعية من أغان وأفلام ومسرحيات وحتى كتب وقصص وأشعار قدمت كلها بالعامية دون أن تفقد المعطيات الجمالية أو العمق المطلوبين في الأعمال الفنية.
“العرب” التقت الكاتبة المصرية صفاء عبدالمنعم التي حاولت رد الاعتبار للهجة العامية المصرية من خلال اشتغالها في رواياتها أو كتبها البحثية بهذه اللهجة.
صفاء عبدالمنعم روائية وباحثة في الأدب الشعبي المصري، كتبت العديد من الأعمال الموجهة للطفل وتتأسف لندرة أناشيد الطفل اليوم والسبب برأيها يعود لقلة الكتابة الجيدة.
وتقول ضيفتنا “لا يوجد اهتمام كاف بالطفل، حتى الألعاب الشعبية والأغاني القديمة اختفت ونادرا ما نجد أما تغني لطفلها مثلما كان يحدث معنا ونحن أطفال”.
تغير التقاليد
تؤمن عبدالمنعم أن هوية الشخص مستمدة من هوية وطنه، من الثقافة العامة واللغة، والعادات والتقاليد، واللغة العامية (المصرية) هي حاملة لهذا التراث لأنها لغة الخطاب اليومي.
وفي كتابها الصادر حديثا “داية وماشطة” تستمر الكاتبة في تجميع الأمثال والعادات الشعبية المصرية وكأنها بهذا الكتاب توثق أثرا قارب على الامحاء.
تقول عبدالمنعم “إن المأثورات الشعبية اليوم تعاني التهميش، مع دخول فكر جديد مختلف كليا عن أفكار المجتمع المصرى، فكر يقوم على تحريم أشياء كثيرة كان المصري يمارسها بتلقائية وباستمرار”.
هناك أمثال شعبية تهاجر من مكان إلى مكان مع التجار والمسافرين وغيرهم لتنتقل من بيئة إلى أخرى
وتضيف “على سبيل المثال: ظاهرة السبوع، كنا نحتفل بدق الهون وتوزيع الحلوى على الأطفال، تم استبدالها بالذبح وعمل ‘العقيقة‘، أكل اللحم والفتة. المضيفة التي كان يقام فيها العزاء، كل عائلة كان لها مضيفة خاصة بها، تم استبدالها بإقامة العزاء في الجامع. الفرح كان يقام في المنزل أو السطوح أو الشارع والبنات تغني وترقص والمزمار البلدي كان يزف العفش، تم استبدال كل ذلك بـ ‘القاعة‘ في الفنادق أوالأندية”.
الشخصية المصرية
في كتابها “داية وماشطة”، ذكرت عبدالمنعم الكثير من العادات والتقاليد المصرية في الزواج والسبوع وحدوتة ما قبل النوم ودفن الميت وغيرها من العادات التي وإن لم تختف فقد تم إدخال التعديلات عليها بسبب تسارع نمط الحياة.
هنا تشير الكاتبة إلى أنه “للأسف الشديد حدثت بعض التغيرات، المجتمع المصري يمتد تراثه إلى الآلاف من السنين وهو يتطور مع تطور الزمن واللغة ودخول ثقافات جديدة ومغايرة، ولكن الشخصية المصرية لها سمات خاصة بها بسبب ارتباطها بالأرض، وطريقة التفكير”.
وتتابع “مجتمعنا زراعي بالأساس، فالمصري بطبعه ودود، يحب العشرة، صبور، يتحمل الشدائد، ونادرا ما يثور، ولا يتعدى على حقوق الغير، فهو بطبعه غير مغير، ولا يحتل أرض غيره. وحريص على بيته ودينه”.
وتضيف “القصص والحكايات والأمثال الشعبية التي أقوم بتجميعها هي جزء كبير من الأعراف والحكم والنواهي والقوانين، تعكس بشكل ضمني طبيعة الشخصية المصرية وأفكارها المتوارثة عبر الأجيال”.
اهتمام عبدالمنعم بالموروث الثقافي الشعبي في كتاب “داية وماشطة”، سبقته روايتها “من حلاوة روح” التي كتبت باللهجة العامية. تحدثنا الكاتبة عن ذلك قائلة “المسألة ليست بعيدة تماما بين رواية ‘من حلاوة الروح‘ التي كتبت بالعامية المصرية وطبعت عام 2001، وبين كتاب ‘داية وماشطة‘ الذي يتحدث عن العادات والتقاليد منذ الميلاد وحتى الوفاة وطبع عام 2018، أي بعد مرور 18 عاما، لأن البيئة الثقافية واحدة، وقد تكون متشابهة كثيرا، الحياة الشعبية البسيطة لجميع سكان البيت والحي الذي يعيشون فيه، وقد خرجت جميع نساء البيت للعمل في أعمال متواضعة بسبب الأزمة الاقتصادية بعد حرب 67، فالسياق الثقافي والفكري والاجتماعي متشابه”.
مرونة النص الشفاهي
مع انتشار الأزمات الاقتصادية تظهر مهن مختلفة للنساء، الماشطة تحولت إلى مزينة، والغسالة تستدعى لغسل الصحون أثناء المناسبات، والدلالة والخياطة هذه المهن محافظة على بقائها في كافة المجتمعات تقريبا.
هذا يعني أن العادات والتقاليد واحدة. وهو ما تؤكده عبدالمنعم مضيفة أنه قد تكون هناك اختلافات طفيفة بين وجه بحري والصعيد في مصر مثلا، ولكنها ليست فروقا جوهرية، ويمكن أن تدخل عليها بعض التعديلات حسب الظروف والحالة الاقتصادية، وخصوصا عند المرأة المعيلة التي تخرج لسوق العمل وهي على قدر بسيط من التعليم، فتعمل بالطبع في مهن بسيطة ويدوية ولا تحتاج إلى إعمال الفكر، فالماشطة أصبحت كوافير، ويشاركها الرجل في هذا العمل، وغيرها من المهن المذكورة لأن هذا تطور طبيعي مع تطور المجتمع والتكنولوجيا التي تلعب دورا مهما في تطوير أو تغير هذه المهن.
الكثير من الأمثال الشعبية المصرية الواردة في كتاب “داية وماشطة”، لا تزال متداولة ووصلت إلى بلدان مختلفة. في ليبيا مثلا تستخدم بعض هذه الأمثال المصرية مثل “مركب الضراير سارت، ومركب السلايف غارت”. هذا يؤكد أن النص الشفاهي يمتلك قدرة على التغيير وملاءمة الظروف المختلفة.
تعلق عبدالمنعم على ذلك قائلة “هناك أمثال شعبية تهاجر من مكان إلى مكان. تهاجر مع التجار والمسافرين والعاملين والعلاقات الإنسانية، وتنتقل من بيئة إلى أخرى، وميزة اللغة العامية (الشفاهية) المصرية أنها لغة سهلة ويمكن التحدث بها، اللغة وعاء الفكر، وهي سهلة الحفظ والتداول، والمثل يقال في موقف أو ظرف خاص، ينتهي الموقف ويظل المثل الملخص لما حدث ويتم تداوله في موقف مشابه للأصل، ‘مركب الضراير سارت ومركب السلايف غارت’ لأن الضرة يمكن أن تتفق مع ضرتها على الزوج أو على أهله أو على تربية الأولاد، لكن السلايف كل واحدة تريد أن تنفرد برأيها”.
وتختتم صفاء عبدالمنعم حديثها مشيرة إلى الصعوبات التي واجهتها أثناء تجميع مادة الكتاب، منها عدم التفرغ الكامل لهذا العمل، فهي تعمل في مؤسسة حكومية. وتضيف “من الصعوبات عدم التمكن من السفر إلى جميع المحافظات خاصة الصعيد. التعثر المادي، رفض بعض الرواة الإجابة عن بعض الأسئلة الخاصة بالجنس مثلاً”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق