شريف يحيى الأمين
مقالات ومتفرقات حول اللغة والأدب والتاريخ والسياسة
المقدمة: ألأمثال العربية الخرافية على ألسنة الحيوان والطيور والحشرات
﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (١)
تعريف المثل:
عرف المُبَرِّد المثل قائلاً: ” المثل مأخوذ من المثالِ، وهو قول سائر يُشبَّهُ به حالُ الثاني بالأول، والأصل فيه التشبيه”. أما ابن السِّكِّيت فقال: “المثل لفظ يخالف المضروب له، ويوافق معناه معنى ذلك اللفظ، شبهوه بالمثال الذي يعملُ عليه غيره”.
وقال إبراهيم النظام: ” يجتمع في المثل أربعة، لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكتابة، فهو نهاية البلاغة” أما ابن المقفع فقد قال: “إذا جُعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث”.
والأمثال نوعان: حقيقي، إن كان لها أصل معروف نقلت عنه وسيقت له، مثل “سبق السيفُ العَذْلْ” أي اللوم، قاله ضَبَّة بن اُدّ بن طابخة، يضرب في استحالة ما فات وهي موضوعة، لفظاً، على الوقف.
وذكر السيوطي في المزهر أن أول مثل جرى في العرب قولهم: المرأة من الممرأ، وكل أدْماء من آدم”. والنوع الثاني، فَرَضي، إذا كان يمثل على لسان حيوان أو طير أو حشرة، أو غيره. مثل “في بيته يُؤتى الحكم” محكي على لسان الضب، ومثل: “كيف أعاودك وهذا اثر فأسك”. محكي عن الحية، وهي قصص خرافية رمزية، شخصياتها حيوانية، لكن طبيعة الإنسان تشف وتتراءى من خلف هذه الشخصيات. وتكثر الفرضية في الأيام التي يكثر فيها الجور والاستبداد والتضيق على الهداة والمرشدين، فيضطرون للوصول إلى أغراضهم، مع الأمن على حياتهم، وعلى ما فيها من الترويح عن النفس، ولطف المدخل، وجمال الفكاهة، المطوية في تضاعيفها النصيحة، وذلك أعمل في النفس، وأدعى للاتعاظ. فهي قصص فيها طرافة وفكاهة وتسلية وحكمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) سورة الحشر، الآية: ٢١.
معنى الخرافة:
جاء في الصحاح للجوهري: ” قالوا حديث خرافة”. وقد شرح الميداني هذا المعنى معقباً على المثل: “أمحل من خرافة”، فقال: هو رجل من العرب، زعم أنه كان من عُذْرَة، فاستهوته الجن، فلبث فيهم زماناً ، ثم رجع إلى قومه، وأخذ يحدثهم بالأعاجيب فضرب به المثل” وزعم بعضهم أن خرافة، أم مشتق من اختراف السمر أي استظرافه”.
وفي القاموس: “الخرافة حديث مستلمح كذب” وعلق الزبيدي في تاج العروس على قصة أوردها قائلاً: وهذه القصة من موضوعات العرب وأكاذيبهم” وقال آخر: “وهذا ما زعمت العرب من قصص خرافية على ألسنة البهائم والطير”، كأنهم توهموا أنها تروى على الحقيقة لا على التشبيه والتمثيل.
وَبَيَّنَ الحريري ماهيتها بقوله:
حكايات موضوعة وضع الأمثال لتفيد الحزم والتيقظ وتنبه على مواضع الزلل في الرأي لأخي الغفلة، وتعطي التجربة لذي السلطان. وقيل في المثل إنه القول الوجيز المرسل، ليعمل عليه وهو في الحقيقة لا يلتبس فيه صدق بكذب إذ كان في خروجه عن المألوف ومباينته المعروف ظاهراً لكل أحد، لأن الأسد لا يخاطب الثعلب على الحقيقة ولا النمر الشجرة، ولا القرد السلحفاة ولا الحمام الشاء”.
قدم الأمثال:
المثل أحد الفنون الأدبية في التراث البشري، وربما يكون من أقدمها عهداً، وإن كان من المرجح أن تكون الهند قد احتضنته في مهده وقدمته لسائر الشعوب، كما اشتهر فيه “ايزوب” عند اليونان و”فيدر” عند الرومان، وبعد ذلك “لا فونتين” الشاعر الفرنسي الشهير.
وعرف العرب المثل منذ جاهليتهم، فنظم فيه بعض الشعراء الشيء القليل، كالنابغة الذبياني، واشتهر أحمد شوقي (توفى ١٩٣٢) بنظمه، في اوائل عهده، للأحداث بالشعر، ما يربو على خمسين حكاية، ما بين قصيرة وطويلة، منها اليسير من ابتكاره، والكثير مأخوذ من أرباب الأمثال كـ”إزوب” و “فيدر” و”كليلة ودمنة” و”لافونتين” ولهذه الأساطير قيمة أخلاقية واجتماعية وتربوية تتناول الأغراض التعليمية والأخلاق الفاضلة، وهي تتمتع بمواصفات المثل الجيد من حيث الايجاز وإصابة المعنى وحسن التشبيه.
تدوين الأمثال عند العرب:
اهتم العرب بهذا الفن تدويناً، فألف صُحار العَبْدي، أحد النسابين أيام معاوية كتاباً في الأمثال، كما ألف عُبَيد بن شَرِيَّة الجُرهمي، معاصره، كتاباً آخر، ذكره ابن النديم، في الفهرست، أنه رآه في نحو خمسين ورقة، وترجم ابن المقفع كتاب “كليلة ودمنة” في القرن الثاني للهجرة. وكثر التأليف في هذا القرن وبعده في الأمثال. وتنافس علماء البصرة والكوفة. فألف المفضل بن محمد يعلى الضَّبيِّ المتوفى سنة ١٧٠ه كتاباً في الأمثال وكذلك يوسف الضَّبي المتوفى سنة ۱۸٢ ه وهو مطبوع ويتضمن اثنى عشر مثلاً. وبرز كتاب الأمثال لأبي فيد مُؤَرِّج السدوسي المتوفى سنة ۱٩۵ ه، كما ألف مرزبان بن رستم بن شروين كتابه “مرزبان نامة” في أواخر القرن الثاني الهجري بالطبرية، إحدى اللغات الفارسية، ثم نقله الى العربية سعد الدين الورداني وترجم بعد ذلك إلى التركية، حيث نقله ابن عربشاه من جديد إلى العربية في القرن التاسع الهجري. وكان من يعمل الخرافات والأسمار على ألسنة الطير والبهائم، كما ذكر ابن النديم في فهرسته: علي بن داود كاتب ربيعة وأحمد بن أبي طاهر وأبو عمر وكلثوم بن عمرو بن أيوب الثعلبي العتابي الشامي، وسهل بن هارون الفارسي الأصل صاحب “بيت الحكمة” المتوفى سنة ٢۱۵ ه – ۸٣٠ م. وله كتاب ” شعلة وعفراء” و”النمر والثعلب” معارضاً فيه “كليلة ودمنة” وقد أثابه المأمون عليه.
وفي القرن الثالث الهجري ألف أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة ٢٢٤ ه كتاباً في الأمثال شرحه من بعده البكري. وكذلك كتاب الأمثال لأبي عِكْرِمة عامر بن عمران الضبي المتوفي سنة ٢۵٠ ه. كما أن أبا أحمد العسكري في أواخر القرن الرابع الهجري وكذلك تلميذه أبو الهلال العسكري صنف كتاباً في الأمثال وهو أكثر شهرة من أستاذه. وفي القرن الرابع الهجري ألف جماعة “إخوان الصفاء” رسالة “تداعي الحيوانات على الإنسان” وخلاصتها أن بني آدم لما سكنوا الأرض وأمنوا فيها، سخروا الحيوانات لخدمتهم، وحبسوها في ديارهم، ففر كثير منها إلى البرية، فطاردوها واحتالوا لصيدها، وهم يعتقدون أنها عبيد هربت من خدمتهم. وبعد محاكمة رضائية بين الحيوانات وبين بني البشر، عند ملك الجن، الذي قضى بعد المحاكمة بالفضل للناس، وأمر أن تكون الحيوانات جميعها تحت أوامر الإنسان، فقبلت بحكمه. أما الخرافات المنسوبة للقمان الحكيم، فقد طبعت في القرن التاسع في باريس لغرضٍ تعليمي، وهي إحدى وأربعون خرافة، وهي قصيرة جداً، وتعتبر مصدراً من مصادر “لافونتين” ولكنها مكتوبة بلغة ركيكة، مما جعل نسبتها إليه غير موثوق بها، وقد يكون النص الفرنسي منقولاً عن العربية بطريقة غير سليمة ثم ترجم إلى العربية بمثل هذه الركاكة.
ويعتبر “مجمع الأمثال” لأبي الفضل الميداني، المتوفى سنة ۵١۸ ه من أهم كتب الأمثال العربية، وهو يشتمل على عدد ضئيل من الامثال الفرضية، والباقي أمثال حقيقية وحكم ومواعظ أخلاقية. وقد قال في مقدمته إنه رجع فيه إلى ما يربو على خمسين كتاباً، جامعاً ما يزيد على ستة آلاف مثل، وقد صنفها ورتبها على حروف المعجم مع شرح موجز لها. وقد نظمه بعض فضلاء الدولة العثمانية عام ١٧٠٩ ه. كما أنه حظي بعناية المرحوم العالم الشاعر الفاضل الشيخ إبراهيم بن السيد على الأحدب الطرابلسي الحنفي الحسيني (١٢٤٢ ه- ١٣٠۸ ه)، فنظمه شعراً من أوله لآخره في كتاب رائع سماه “فرائد الآل في مجمع الأمثال” مما دل على عبقرية فذة، إذ لم يترك كلمة من أي مثل إلا ونظمها مع شرحها، واضعاً الأصل والشرح بخطين مختلفين: أحمر وأسود، ليعرف أصل المثل من الشرح التابع له، كما أن له أيضاً “منظومة الآل في الحكم والأمثال” ومنها هذا البيت:
“وبعده فإن أمثال العرب أجل ما يعنى به أهل الأدب”
كما صدر في العصر الحديث كتاب “الدرر والآل في بدائع الأمثال” للشيخ محمد علي الإنسي البيروتي المتوفى سنة ١٣٧٢ ه. كما أن العالم المصري أحمد باشا تيمور، صنف كتاباً سماه “الأمثال العامية المصرية” كما أن الأديب المصري الفكه محمد عثمان جلال نشر كتاباً اسمه “العيون النواقظ في العبر والمواعظ” على ألسنة الحيوان.
أهم هذه الكتب:
يعتبر كتاب “كليلة ودمنة” أهم كتاب على ألسنة الحيوانات، وقد ارتبط بمترجمه وناقله الى العربية عبد الله بن المقفع المولود في أوائل الثاني للهجرة من أسرة فارسية، اتهم بالزندقة، فقتله سفيان بن معاوية بن أبي صفرة، عامل المنصور على البصرة سنة ١٤٣ ه. ولم يعبأ الخليفة بالقصاص لا من قاتله، ولا بالتحقيق في أمر مقتله. وكان صريحاً من الجهر بآرائه، لإصلاح أحوال الناس، كما هو واضح من كتبه “الأدب الكبير” و”الأدب الصغير” و”رسالة الصحابة” وهو صاحب الكلمة الرائعة عن العالم الحقيقي “وفضل ذي العلم، وإن أخفاه، كالمسك يُستر، ثم لا يمنع ذلك رائحته من أن تفوح وتنتشر”. وذكر في مقدمته لكتاب “كليلة ودمنة”، أن الملك دبشليم هو الذي طلب من بيدبا الفيلسوف وضع كتاب بليغ، يكون ظاهره لهواً وتسلية وسياسة للعامة وتأديبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية مع فائدة للعقلاء ومتعة للجميع.
مقاربة بين “كليلة ودمنة” و”ألف ليلة وليلة”:
إن الكتابين مشتركان من حيث الشكل الفني وفي القصص المتداخلة، أي أن القصة تُروى من داخل قصة، حتى يجتمع من ذلك عدد من القصص وقد لا يرتبط بالعنوان منه إلا القليل، كما في باب الحمامة المطوقة. وهذا واضح في الأبواب الأولى من الكتاب، ثم تأخذ الأبواب في الإيجاز بسبب قلة التداخل. كذلك يشترك الكتابان في أن كلاً منهما يبدأ بما يعرف بالقصة الإطار، أي القصة التي تبرز جميع مايتلوها من قصص معاً. فكما أن كتاب “ألف ليلة وليلة” يبدأ بقصة الملك شهريار الذي اكتشف خيانة زوجته فقتلها؛ ثم جعل يتزوج كل ليلة بامرأة وفي الصباح يقتلها، حتى زفت إليه شهرزاد، فجعلت تقص عليه قصصها التي استغرقت ألف ليلة وليلة، مما جعلته يؤجل قتلها، وبذلك نجت من القتل وأنقذت معها بنات جنسها. كذلك نجد في أول كتاب “كليلة ودمنة” قصة بيدبا الفيلسوف مع دبشليم الملك الذي ما إن استقر له الملك حتى طغى وتجبر وعبث بالرعية، واستصغر أمرهم. فلما رأى بيدبا ذلك قصد الملك وصارحه بطغيانه وبغيه ونصحه بأن يسوس الملك بالمدارة والرفق، مما أوغر عليه صدر الملك، فسجنه. غير أنه عاد وجعله وزير مملكته. فلما استقر الملك لدبشليم، نظر في الكتب التي وضعها فلاسفة الهند لآبائه وأجداده، فتمنى أن يكون له أيضاً كتاب ينسب إليه وتذكر فيه أيامه، فعهد الى بيدبا بذلك. فألف كتاب “كليلة ودمنة”. وقد ذكر الدكتور حسين مؤنس أن أصل الكتاب “كليلاج ودمناج” ورجح أن يكون هذا الاسم في السنسكريتية أو الفهلوية أو السريانية. أما سليم زبال فيرى أن أصل اسم الكتاب: “كركاطة ودمنكة” وكرطاطة معناها ذو العواء أم دمنكة فتعني المنتصر.
وقد نال هذا الكتاب عناية ودراسات عالمية منذ نقله إلى العربية فمن ذلك أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي نقل قصصه إلى الشعر بأربعة عشر الف بيت، كما أن ابن الهبارية صاغه بمنظومة تدعى “نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة” وله أيضاً “الصادح والباغم” : قصيدة تقع في ألف بيت يقلد فيها “كليلة ودمنة” وكلاهما كان في العصر العباسي. وابن الهبارية هو الشريف أبو يعلي محمد بن محمد العباسي البغدادي الهاشمي. وكذلك نظم هذا الكتاب الأسعد بن الخطير المصري المشهور بابن مَمَّاتي” المتوفي سنة ٦٠٦ه وهو ناظم سيرة صلاح الدين. فكان هذا الكتاب أهم مصدر لمن ولج هذا الفن شرقاً وغربا”.
صلة العرب بالحيوان:
إن صلة العربي بالحيوانات وطيدة وحميمة ووثيقة وتُنبي عن مَودةٍ دائمة بل وعجيبة. إذ فاخروا بذكرها ومصاحبتها، سواء أكانت أليفة أم وحشية مفترسة. كما أنهم جعلوا لها كنى وألقابا مثل أبو الحارث أي الاسد و”السرحان” أي الذئب، كما في الجدول الملحق في نهاية هذه المقدمة. أما شغفهم بالأليفة سواء أإن للبنها ولحمها أم لركوبها وبخاصة الخيل والجمال فقد كانت ملازمة لهم للسفر والحروب وحمل الظعائن، وحثها على السير بالزجر من ناحية، وبالغناء والحداء من ناحية ثانية. ولا نشعر بأن لهم عداوة معها حتى الضارة والمؤذية منها، فهذا المتنبي نراه كيف يصف الأسد وسطوته وثقته بنفسه.
وَردٌ إِذا وَرَدَ الــبُــحَــيـــرَةَ شـــــارِبـــــاً وَرَدَ الـــفُــــراتَ زَئـــيــــرُهُ وَالــنـــيـــلا
يَـــطَأ الـثَــرى مُـتَـرَفِّـقـاً مِــــن تـيـهِــهِ فَـــكَـــأَنَّـــهُ آسٍ يَــــجُـــــسُّ عَـــلـــيـــلا
وهذا امرؤ القيس يصف سرعة فرسه وشدة حركته:
مكرٍ مفرٍ مقبل مُدبرٍ معاً كجلمود صخر حطه السيلُ من عَلِ
أما عنترة فقد تشارك مع فرسه العواطف النبيلة ومقاسمته إياه الصبر في الحرب في أروع صوره:
فازور من وقع القنا بلبانه وشكى إلي بعبرة وتحمحـم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلم
هذا طرفة يمتطي ناقته ويسرح بها في البراري لِيَبْعُدَ عن هموم الدهَّر:
“وإني لأُمْضي الهمَّ عند احتضارِهِ بِعَوجاءُ مِرْقالٍ تروحُ وتَغْتدي”
ومن ذلك جعلهم الكلب مثالاً للشكر والوفاء فمن أمثالهم “أشكر من كلب” وقد وُصفتْ بعضُ الحيوانات بنعوت بشرية سيئة، منها: أحمق من نعامة” لأنها إذا مرت ببيض غيرها، حضَنته وتركت بيضها، وليس كما يردد كثير من البلهاء بأنها تضع رأسها في الرمَال فيأتي الصياد ويصطادها لأنها لو فعلت ذلك لماتت. كما قالوا أحمق من ذئبة لأنها تَدع ولدها وترضع ولد الضبع، كما قالوا: “أحمق من كروَان” لأنه إذا رأى أناساً سقط على الأرض فيأخذونه. ومن كناهم الخاصة بهم: أبو الكلاب، وهو ورقاء بن الأشعر أحد بني تيم اللات بن ثعلبة، كما أن بعض العائلات كانت تسمى أبناءها بأسماء الحيوانات كما في هذه القصة الطريفة عن وائل بن قاسط بن نزار بن معد بن عدنان عندما مر بأسماء بنت دُرَيم وكان يقال لها أم الأسبع، وكانت امرأة جميلة، وبنوها يرعون حولها. فَهَمَّ بها فقالت له: لعلكَ أسررتَ شيئاً في نفسك مني؟ فقال: أجل.
فقالت؛ لئن لم تنته لأستصرخن عليك. فقال: والله ما أرى بالوادي أحداً. فقالت له: لو دعوتُ سباعه لمنعتني منك وأعانتني عليك فقال: أو تفهم السباع عنك؟! قالت نعم، ثم رفعت صوتها! يا كلب يا ذئب يا فهد يا دب يا سرحان يا أسد يا سِيد. فجاءوا يتعادون ويقولون: ما خبرك يا أماه؟ فقالت ضيفكم هذا أحسنوا قراه. ولم تر أن تفضح نفسها عند بنيها. فذبحوا له وأطعموه. فقال وائل: ما هذا إلا وادي السباع. ومن بعض عاداتهم القبيحة، في الجاهلية أكلهم الكلاب ومنهم بنو أسد لذلك عيرهم الفرزدق بشعره قائلاً:
إذا أسدي جاع يوماً ببلدة وكان سميناً كلبه فهو آكله
أما صلاتهم بالحيوانات الوحشية والمفترسة ففيها من الرواية والروعة الشيء العجيب والغريب. فهذا “تأبط شراً” يروي ويفاخر بأنه كان يبيت في منازلها ضيفاً عليها، حتى شعرت بالإلفة منه ومعه فهو “متوحش” معها في مرابعها ومنازلها. فأنست به وأحست بحنو نحوه، ولو كانت هذه الوحوش تصافح الناس لصافحته جميعها كما يحدثنا عن نفسه:
يبيت بمَغْنى(١) الوحش حتى ألِفْنَهُ ويصبحُ لا يحمي لها الدهر مرتعاً
رأين فتى، لا صيد وحش يهمه فلو صافحت إنساً لصافحته معا
أما الشنفرى فإنه يصرح في لاميته بأنه قد هجر أهله ومال إلى قوم سواهم وما هؤلاء القوم إلا وحوش في البرية حيث سعد بصحبتها في تلك البراري ورفقتها، لأن هذه الرفقة تغني عن النميمة بين الأقارب، وتحفظ السر ولا تذيعه ولا تنشره كما يفعل البشر:
ولي دونكم أهلون سِيدٌ عَمَلَّسٌ وأَرْقَطُ زُهْلولٌ وعَرفاءُ جَيْأَلُ
هم الأهل لا مستودع للسر ذائع لديهم ولا الجاني بما جَرَّ يُخْذَلُ
السَّيد: الذئب- العملس: القوي على السير والجري- أَرْقَط زُهلول: النمر- عرفاء جيأل: ضبع ذات عرف طويل أي شعر على العنق. جَرَّ: ارتكب جريرة) وهكذا نجد أن الأمن والطمأنينة في معاشرة هذه السباع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) المغنى: المنزل.
ويصف في نهاية اللامية كيف أن الوعول تجول حوله كالعذارى اللابسات ثياباً طويلة الذيل، وقد اختلط بها بعد أن أنست به وألفته كأنه مثلها فلم تعد تنكره. فهذه الحيوانات ملجأ ومأوى لهؤلاء الناس الهاربين من الناس الأجلاف، ويتركونها ترتع وترعى وتلهو وتلعب ولا يزاحمونها، مدى الدهر، في مرتعها ومرعاها.
وهذا الاحيمر السعدي يتحدث عن أنسه بعواء الذئب وارتياعه وخوفه من صوت إنسان قد يكون صنيعة عند طاغية جبار:
عَوى الذئبُ فاسْتَأنَسْتُ بالذئب إذ عوى وَصَوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ
وهذا أخو قبيلة عدوان يصف قبيلته بأنها حية الأرض؛ وراعٍ يدعو على غنمه إذا ما تفرقت أن يسلط عليها الذئب والضبع حتى تعود وتجتمع عنده ولا تبتعد عنه.
و في عصرنا الحاضر تكثر العائلات التي تحمل أسماء كثير من الحيوانات والحشرات (التمساح- الحوت- الفيل- الجمل- السبع- الديك- الحبش- البلبل- النحلة وغيرها…)
العصر الإسلامي:
أما في العصر الإ سلامي، فقد ورد في كتاب حياة الحيوان عن بن عبد البر أن ثلاثة من الصحابة (رض) كلموا الذئب وهم: رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع وأُهْبان بن عياذ الخزاعي وأمه عادية.
أما حكاية الفرزدق مع الذئب فهي من ألطف القصص مع هذا الحيوان الشرس الجريء المفترس، فقد ذكر هذا الشاعر أنه خرج في آخر الليل من الكوفة مع نفر في قافلة، وكان على بعير لهم شاة مسلوخة مربوطة أسالت لعاب الذئب فحركها ليأكل منها فذعرت الإبل وانتبه الفرزدق فأبصر الذئب ينهشها، فقع رجل الشاة ورمى بها الى الذئب، فأخذها وتنحى، ثم عاد فقطع اليد ورمى بها إليه، فلما أصبح القوم أخبرهم بما كان وأنشأ شعراً هذا بعضه:
فلما دنا قلتُ: ادنُ دونَك، إننى وإياك في زادي لمشتركان
فبتُ أُسوي الزاد بيني وبينه على ضوء نار مرة ودخان
فقلتُ له لما تكشر ضاحكاً وقائم سيفي من يدي بمكان
تَعش فإن واثقتنى لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وكل رفيقي كل رحلٍ، وإن هما تعاطى القنا قوماهُما أخوانِ
وأما البحتري فإنه يذكر لنا كيف أنه كان يلهو ويعبث بالذئب:
عوى فأقعى فارتجزت فهجته فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فنحن نرى هؤلاء الشعراء كيف أنهم اختاروا هذا الحيوان الوحشي والمخيف المفترس وأمثاله، فأولعوا وشغفوا به وصادقوه وأطعموه الطعام من زادهم وعبثوا به ولاعبوه وصادقوه مع يقينهم بشراسته وعدواته وغدره مقدرين بأسه مع الاحتراس منه، ثم إنهم اتخذوه ضيفاً وأخاً لشجاعته ومقاسمينه الزاد ساعة مبيته على الطوى. ومن طرائفهم الخاصة هذه الأبيات في رثاء حمار لبعض الظرفاء:
بكته جِلالُ خَزًّ وانتحبتْ له مخالي حريرٍ رُحْنَ منه عَطولا
أقام عليه آلُ أعوج مأتما وأعلى له آل الوجيه عويلا
ففي كل اصطبل أنين وزفرة تردد فيه بكرة وأصيلا
ولو وفت الجردُ العتاقُ حقوقَه لما رجعت حتى الممات صيهلا
ولو أنصفته الخيل ما ذقن بعده شعيراً ولا تبناً ومتن غليلاً
عقائد العرب الخرافية:
وردت كثير من القصص في الجاهلية عن الجن والعفاريت والشياطين وزعموا أنها تتحول في أي صورة شاءت إلا الغول فإنها تبدو في صورة امرأة، عدا رجليها، فلا بد أن تكون رجلي حمار وكثيراً ما تتراءى الجن في صورة الثيران والكلاب والنعام والنسور. وكانوا يزعمون أن أهم منازلها في أرض “وبار” وصحراء “الدهناء” “ويبرين” كما روى العرب قصصاً عن تشكل الجن بأشكال الحيوان واتخاذها مطايا ولقائها للناس وخدمتهم.
ومن عقائدهم أن القتيل إذا قتل خرجت من رأسه هامة تقول: “اسقوني فإني صدية” وتظل كذلك حتى يؤخذ بثأره. وربما تكون الهامة هي النفس أو الروح، ويزعمون أن هذا الطائر، قد يكون في البداية صغيراً ثم يكبر، فيصبح كنوع من البوم. وقيل إن الهامة هي أنثى البوم الذي هو الصدى.
كما أنهم ربطوا بين الحيوانات وأحداث المستقبل تفاؤلاً وتشاؤماً. وقد نسخ الإسلام هذه الاعتقادات والخرافات، وتبرأ منها: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك.
***
الحيوان في القرآن:
أما ماجاء في القرآن من آيات تذكر الحيوان والحشرات فقد كان بعضها لبيان منافعه، أو لعبرة منه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} (١) {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (۲) أو لضرب مثل، ومعنى ضرب مثلاً أي وصف وبين {إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ًما بعوضة فما فوقها} (٣) . وقيل ضرب المثل معناه: اعتباره وصنعته أو ذكره وتمثيله للناس كما وردت آيات لتحدي اعتقادات الناس الواهية وإظهار عجزهم، مثل تعلقهم بالأصنام وغيرها كقوله عز شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (٤) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) سورة الأنعام، الآية: ٣٨.
(۲) سورة النحل، الآية: ٦٦.
(٣) سورة البقرة، الآية: ۲٦.
(٤) سورة الحج، الآية: ٧٣.
كما كان بعضها أحكاماً تتعلق بالحيوان إما لتحليل أكله أو تحريمه وبعضها لإبطال عادات قديمة والآخر كان بياناً لمعجزات بعض الأنبياء كقصة بقرة بني إسرائيل وناقة صالح وقصة الفيل والطير الأبابيل والهدهد وغراب ابني آدم، كما وردت سور بأسماء بعض الحيوانات والحشرات (البقرة- الانعام- الفيل- النحل- النمل- العنكبوت).
كما أن الاسلام حث على اقتناء الحيوان لأنه ثروة غذائية في حياته: “تغنموا ولو بشاة فإن الغنم غنيمة” كما أنه أمر بالرفق بالبهائم ونهى عن قتلها صبراً، أي أن تحبس وهي حية وكانت تعليمات المحتسب في الدولة الفاطمية واضحة بشأن معاملة الحيوانات فكان يحذر أن تحمل دابة ما لا تطيق حمله وكان يطلب إلى أصحابها ألا يتركوها سائبة دون طعام أو شراب حين استغنائه عنها بل ألزم صاحبها بتقديم الطعام والماء لها في أوقاته. وكان يسير أحد أعوانه لتفقد الدواب في مواعيد إطعامها وإروائها، فإن لم يعرف صاحبها جمعت الدواب الضالّة وعين من يقوم بخدمتها حتى تقضي أجلها. وحذر من أن تتخذ غرضاً وهدفاً لتقتل بالرمي ونحوه بل أمر بإطعامها ” لأن في كل كبد رطبة أجراً” كما أنه نهى عن التحريش بين البهائم، أي الإغراء وتهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الجمال والكباش والديوك وغيرها.
***
فطنة الحيوان
ان من يراقب الحيوانات يشعر ويحس أن لها لغة خاصة تتفاهم بها، كما يتفاهم البشر، وما ذلك الا لسلوكيتها المدهشة، وكل هذا يفسر، عادة بلفظة “الغريزة” ويعزى لها، أي بالطبيعة المجبولة بها والمكونة منها. وقد لا يكفي هذا النعت للشرح وبيان كل حركات هذه المخلوقات وتصرفاتها، فهي تعني أكثر ما تعني السلوك اللاإرادي أو الآلي وهذا أشبه ما يوصف به النبات والأجرام السماية. ولعل القول المأثور”إن في كل رأس حكمة” هو الوصف الأكثر دقة. وربما ما قاله الإمام جعفر الصادق (ع) بأن الحيوانات تتميز بالفطنة التي فطرها عليها الباري عز شانه، هو الوصف الأقرب للواقع، بل هو الحقيقة ذاتها. فلا عجب أن نرى الحكماء قد جعلوا منها أمثولة للناس.
***
الأمثال العربية:
ان الأمثال التي أمامنا ليست بالكثيرة، مع ميل واضح إلى القصر في معظمها،
لانطباع العربي على الإيجاز، لا الإطناب، ولأنها الى الحفظ أسرع، وفي الأصقاع أشيع، وأكثر ما تكون هذه الأمثال، موجزة، ومتضمنة حكمة مقبولة، أو تجربة صحيحة، تمليها عليها طباع العربي بلا تكلف، وإنما يؤتى بها في كلامهم كالملح في الطعام. وقد تمثل بها بعض المسلمين في الصدر الأول، لتقريب فكرة وشرح قصته فكانت حاضرة في أذهانهم لما فيها من الفكر السليم وإعمال العقل والحكمة والرأي الثاقب، فتكون عبرة وشاهداً للسامعين وبخاصة لمن يرفض النصح ويأباه، سواء أكان من المحكومين
أو الحاكمين، أو من الذين يرغبون ويميلون إلى السير على الطريق السوي القويم، مقدمة لمواعظ أخلاقية مباشرة ممزوجة بالتسلية والمتعة، مع الإشارة إلى أن كثيراً منها تتشابه في موضوعاتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق