أمثال شعبية خاطئة (1) احذر شر من أحسنت إليه
أمثال شعبية خاطئة (1)
احذَرْ شرَّ مَن أحسنتَ إليه
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فيُوجَد في ثقافتنا العربيَّة الإسلاميَّة أمثالٌ صحيحة تُوافِق رُوح الشريعة وربانيَّتَها، وهي خلاصة لتجارِب علماء المسلمين وحكمائهم عبر العصور، وقد شابَتْها بعضُ الأمثال الجاهلية الدَّخيلة، وتسبَّبت في تغييرِ بعض المفاهيم والقناعات لبعض العوامِّ.
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خطورةِ تلك المفاهيم الجاهلية على ثقافة المسلمين ومعاملاتهم كلِّها، فقوَّم بعضها، وردَّ بعضها الآخر؛ فمن ذلك قولُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((انصُرْ أخاك ظالِمًا أو مظلومًا))، قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالِمًا؟! قال: ((تأخذ فوق يدَيْه))[1]؛ أي: (تحجُزُه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصرُه).
فهذا المثل كان مشهورًا عند العرب في جاهليتهم، فنبَّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوَّمه ضمن ما قوَّمه من المفاهيم.
ولذا يجبُ على علماء الأمة ودُعاتِها الاهتمامُ بهذا الجانب من الثقافة؛ لأهميته في تحصين المجتمع من الجاهلية ومفاهيمها المصادِمة للشريعة الإسلامية؛ ذلك لأن أعمالَ الشخص ومواقفَه من القضايا المختلفة منوطةٌ بثقافته وقناعاته، فإذا كانت معارفُه وعلومه منضبطةً بالكتاب والسُّنة، كانت أعماله وقراراته صائبةً، وأما إذا كانت معارفه باطلةً، أو كان فيها دَخَنٌ، كانت اختياراته ضالَّةً أو خاطئة بحسَبِ ذلك.
ومساهمةً في تحقيق هذا المطلب، فإنني سأقوم بتصحيح ما وصل إليَّ من تلك المفاهيم الخاطئة في سلسلة مقالات متَّصِلة، والرد على ما فيها من شبهات وأخطاء في ضوء الشريعة الإسلامية، إن شاء الله تعالى.
♦ ♦ ♦
♦ المثل الأول: (احذَرْ شرَّ مَن أحسنتَ إليه)، وهذا المثل شائعٌ بين الناس اليوم بهذه الصيغة الشنيعة، وهو غريبٌ على الثقافة الإسلامية، ومردودٌ على مَن اختلقه ونشره.
والله تعالى يقول: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ [الرحمن: 60]، ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((تهادَوا تحابُّوا))[2]، والقلوبُ مجبولةٌ على حب مَن أحسَنَ إليها، وردِّها للجميل سواءً بسواءٍ، والفطرةُ الإنسانية داعيةٌ إلى التعاون وتبادُلِ مشاعر المودَّة والإخاء، وهذا مُشاهَد ومجرَّب، فإذا كان المرء مقتنعًا بأنه لا ينتظر ممَّن أحسن إليه إلا الشر والضرر، ولم يكن محتسبًا في إحسانه، ولا يبتغي فيه وجهَ الله عز وجل والدارَ الآخرة - والعياذ بالله تعالى - فإنه سيقطعُ إحسانه ومَبرَّاتِه عن جميع الناس لا محالة، وهذا مخالفٌ لِمَا فُطِر عليه الناس من التراحم والتعاون، وتبادُل المنافع والمصالح، ومخالفٌ أيضًا لِمَا أمر الله عز وجل به مِن الإنفاق في وجوه البر والخير، وجعل ذلك من صفات الصالحين؛ لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((بينما رجلٌ يمشي بفَلاةٍ مِن الأرض، فسمِع صوتًا في سحابة: اسقِ حديقةَ فلان، فتنحَّى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرَّة، فإذا شَرْجَةٌ من تلك الشِّرَاج قد استوعبت ذلك الماء كلَّه، فتتبَّع الماء، فإذا رجلٌ قائم في حديقته يحوِّل الماء بمِسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمُك؟ قال: فلانٌ، للاسم الذي سمِع في السحابة، فقال له: يا عبد الله، لِمَ تسألُني عن اسمي؟ فقال: إني سمعتُ صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسقِ حديقة فلان، لاسمِك، فما تصنع فيها؟ فقال: أما إذ قلتَ هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدَّق بثُلُثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثُلُثه))[3].
وهذا المَثَل مخالفٌ لهَدْيِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معاملته للناس؛ حيث كان يقبَلُ الهديَّة ويُثِيب عليها، ويقول: ((مَن صنع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإن لم تجِدُوا ما تكافئونه، فادعُوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه))[4]، كما أنه مناقِضٌ لأخوَّة الإسلام التي أمَر الله تعالى برعايتها وتأديةِ حقِّها، في قوله عز مِن قائل: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]، وبيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم حقيقةَ الأخوَّة الدينية في قوله: ((ترى المؤمنين في تراحمِهم وتوادِّهم وتعاطُفِهم: كمَثَل الجسدِ؛ إذا اشتكى عضوًا، تداعى له سائرُ جسدِه بالسَّهر والحمى))[5].
وإذا كان المثلُ المذكور لا ينسجِمُ مع أخلاق المسلمين وسماحتِهم وكَرَمِهم كما رأينا، ولا يوافِق أيضًا روحَ الشريعة الإسلامية وأحكامَها التي تأمر المؤمنَ بالبرِّ والإحسان، وابتغاءِ وجه الله عز وجل في الأمور كلِّها بتجرُّد وإخلاص، كما في قوله سبحانه عمَّا علِمه من قلوب المؤمنين: ﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 9، 10].
فإذا كان الحال كذلك، فلعل الصيغة الأصلية للمثل هي: (اتَّقِ شرَّ اللئيم إذا أحسنتَ إليه).
وبهذا يستقيم المعنى؛ لأن اللؤم مرضٌ قلبيٌّ ونفسيٌّ خطيرٌ، فلا يُستَبْعَد ضرر صاحبه وأذيته لمن أحسَن إليه؛ ولذلك قالت العرب قديمًا في حِكَمِها: (احذر اللئيم إذا أكرمتَه، والرذيل إذا قدَّمته، والسِّفْلة إذا رفعته)؛ ذلك لأن اللئيم لا يُرجَى خيرُه، ولا يُسلَم من شره، ولا تؤمن غوائله.
ورغم هذا كله يبقى التسامح هو السمةَ البارزة لمنهج الإسلام في معالجته لمثل هذه القضايا الاجتماعية الشائكة؛ لتبقى الفضيلةُ مصونةً بين الناس؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [البقرة: 237]، ويقول عز وجل: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 34، 35].
وقد عفا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عمَّن آذَوه وحارَبُوه، وقال لهم يوم الفتح الأكبر قولتَه المشهورة - وهو قائمٌ على باب الكعبة المشرَّفة -: ((اذهبُوا فأنتم الطُّلَقاء))[6].
وهكذا تكون مواقفُ رجال الإسلام الذين فهِموا دينهم، وأخلَصوا لربهم سبحانه، واشتَغَلوا بما ينفع الناسَ في دنياهم وأُخراهم.
نسأل الله تعالى التوفيق والعافية وحسن الختام.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق